مصر تنهض.. كيف؟!
لى صديقٌ أكاديمىٌّ مرموق، قريبٌ من النظام رغم نقده غير المعلن له، استفز صاحبُنا هذا أحدَ المتنفِّذين من أصدقائه ذات يوم بقوله: “البلد يا فلان بيه صار لها شأنٌ ومكانةٌ بعد 2013، وأراها مقبلة على نهضة عظيمة”، قال هذا الكلام متوقعًا أن يدافع “المتنفِّذ” كعادته؛ إلا أنه فوجىء بقوله: “البلد رايحة فى ستين داهية، احنا بنرجع للخلف بسرعة القطار، وتقولى نهضة عظيمة!!”.
والحوار على قصره يرد على أكاذيب متواصلة تجافى الواقع المرير وتزعم أننا بخير وأننا نسير فى طريق الأمم الناهضة، خصوصًا أن الرد جاء على لسان مسئول وفى لحظة صدق قد لا تتكرر. إنما هو الحال الذى نعيشه ويحاولون التشويش عليه بادعاءات وأفكار لا تمتُّ للحقيقة بصلة.
والتمثال الحجرى الذى نحته أحد أساتذة الفنون، ونشر –مفتخرًا- صوره على حسابه بـ”الفيسبوك” قبل أن يقوم بحذفها بعد الهجوم عليه –يجسِّد الحالة المصرية، وعلى قدر ما أثار من الأوجاع فإن له دلالات مهمة تساعد فى تشخيص الواقع والخروج بمقاربة لمكونات الأزمة.. فهذا أستاذ جامعى يخرج علينا، تغمره الثقة والثبات، بهذا “التشوه”، ويسميه “فنًّا”، بل أتته الجرأة لاتهام من نقدوه بالجهل والسطحية و”قلة الأدب” بدلًا عن الاعتذار عن صدور هذه “المهزلة” التى أجمعت الدنيا على بشاعتها وقبحها.
لا عاقل يتمنى انتكاس بلده، لكن لا كيِّس يرضى بالتزييف والمخادعة، بله أن يكون شريكًا فيهما. ولا أرى أن المصريين قد بالغوا فى تلقين صاحب التمثال الدرس. ألم ير ما نحن فيه من انهيار وتردٍ ليتحدث عن “نهضة” ويجسدها فى عمل فنى؟ ألم يعلم بأن سجون “المحروسة” تبتلع ستين ألف معتقل، بينهم نساء، بدون جريرة؟ بلى يعلم حيث بينهم زملاء له. ألم يعلم أن البلد منهار اقتصاديًّا، متفسِّخ اجتماعيًّا، وأن الفساد يغطى قاعه وقمته؟ بالتأكيد يعلم كل هذا، ويعلم أيضًا أننا بلد بلا خدمات تعليمية أو صحية، وأننا صرنا فى الترتيب المتأخر فى كل المجالات وأن لنا “الشرف!” أن سبقتنا كل الدول إلا الصومال، وأن مشاريعنا كلها “فناكيش” وأننا مكبلون بالديون معرضون لإشهار الإفلاس فى أى لحظة.
ولو كانت مصر ناهضة بحق، أو أنها متطلعة إلى نهضة كما جسّدها “مختار” فى تمثاله الأصلى بفتاة تضع يدها على “أبو الهول” وتتطلع ويدها الأخرى على عينها إلى المستقبل –لأعادت على الفور “العسكر” إلى ثكناتهم بدلًا من تحويل البلد إلى مملكة خاصة بهم حللوا لأنفسهم فيها كل شىء، ولأُخرج من فى السجون، ولنُفذت اختيارات الشعب حتى تختفى المهازل وأقلها تقديم النفايات وتأخير الكفايات، وأن ينفك الحَجْرُ المضروب على المصريين الذين كُممت أفواههم وصودرت أملاكهم وبيعت أرضهم وماؤهم وغازهم بتأييد من “بانجو” الذى صار مشرِّعًا فى عصر “النضة الكاذبة”.
إن ما فعله هذا “المثَّال” هو بالضبط ما يفعله بنا العسكر، وصدق من قال “الناس على دين ملوكهم”، و”إذا كان رب البيت….”، فأىُّ نهضة يتحدث عنها؟ أم هو الادعاء والكذب لأجل مجاملة نظام ساقط؟ وماذا تعنى النهضة المفترض أن يفتخر بها النحات والأديب والفنان؟ أهى نهضة العسكر التى أشار إليها “المتنفذ” والتى ترجع بنا للخلف بسرعة القطار؟ أم هذا العمل المنفِّر وغيره من الأعمال التى رأيناها من قبل وتعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن أسوأ الفترات التاريخية التى مرت بها “المحروسة”؟
على حد علمى فإن النهضة تعنى الحرية، والمؤسسية، والشفافية، والعلمية، وتعنى المساءلة والقانون والعدالة، وهى تعادى الفردية. وهذا عينه ما قامت عليه الأمم الناهضة التى لها الآن شأن وقيمة. وهذه القيم –للأسف- لا تجد منها قيمة واحدة فى بلدنا الذى يحكم فيه الفاسد ويفتى فيه المتهتك ويحرسه اللص.
“النهضة المزعومة” تجدها فقط فى أمانى من يحكموننا بالحديد والنار، وهم لا يعرفون معناها ولا يتصورون سمتها، وفى أخيلة من نهبونا وضيعونا وأهانونا وصغَّرونا، وفى ألسنة الإعلاميين المدلسين، وفى تصريحات السياسيين الكاذبين، وتجدها فى الدراما الدعائية المزيفة، وفى الفنون المؤممة. إنه نظام غاب عنه المنطق حتى اعترف رأسه بأنهم “شبه دولة”، و”وطن ضايع”، “وكده خربانة وكده خربانة”، “وكنا كده وبقينا كده… ودى المعجزة”؛ فمن أين تأتى النهضة؟
الطغاة لا يرحلون طواعية
لم يسجل التاريخ حالة واحدة لطاغية زهد فى منصبه أو غادره طواعية، ولو ادَّعى أحدهم استعداده …