تطهير الشرطة والقضاء في مصر .. لم يفت الوقت بعد
كلما زادت انتهاكات الشرطة والتجاوزات الممنهجة للقضاء المصري بحق الثورة والثوار، كلما تصاعدت صرخات الناشطين جلدًا لأنفسهم حينًا، ولومًا للآخرين أحيانًا، على عدم المضي قدمًا في تطهير هذه المؤسسات من أتباع مبارك الفاسدين المفسدين.
كثيرًا ما تذهب النقاشات أبعد من قصد المراجعة والاعتبار للجولات القادمة إلى التخوين وتبرير التقاعس عن اتخاذ موقف موحد لوقف المهازل اليومية التي تطال الجميع بدون استثناء.
لا يمكن التقليل من أهمية الجدل حول هذه القضية، من جهة أن تطهير الدولة من المسؤولين عن فسادها هو لبّ الثورة ومقصد الإصلاح، لكن أن ينتهي النقاش في هذه القضية إلى توزيع اتهامات مجانية بالخيانة والعمالة سيكون هو آخر ما سيجلب حق الشهداء أو يحقق العزاء لأهاليهم. لن يمكن تحقيق التطهير، ولا تقييم التقدم فيه بجدية، بدون فهم توازنات القوى الحالية والعمل على تعديلها، وبدون فهم أصول العقد الاجتماعي الحالي ومؤسساته، والأهم من ذلك ملامح بنود العقد الاجتماعي الجديد ومؤسساته.
دعنا نتفق من البداية على أن التطهير ضرورة فورية؛ وذلك أنه من أجل بدء عملية الإصلاح يجب إزالة المتسببين في الفساد، وكذلك هو ضروري أيضًا لترسيخ قيمة تحمل المسؤولية وحكم القانون الضرورية للديمقراطية كنظام سياسي.
دعنا أيضًا نتفق على أن التطهير هو عملية المقصود بها في النهاية إصلاح هذه الأجهزة من أجل أن تحترم حقوق الإنسان وتمارس عملها في إطار النظام الديمقراطي.
ذلك بمعنى أن تهتم الشرطة بالأمن الجنائي للمجتمع أكثر منها بالأمن السياسي للحاكم، وأن يستقل القضاء عن الحاكم ليحقق العدل بين الناس لا أن يصبح أداة قمع، وأن يقوم الإعلام بدوره في التوعية وفضح الفساد لا التهليل والتطبيل للنظام القائم.
في ضوء هذا الفهم للتطهير كعملية طويلة مستمرة، لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للإصلاح القائم في ظل نضال طويل ومستمر من أجل إعادة صياغة عقد الخمسينيات الاجتماعي المهترئ القائم على ثنائية القمع أو الفوضى إلى عقد جديد يقوم على ثنائية الحرية والمسؤولية.
** ** **
التطهير، كثورة في الأجل القصير، وكإصلاح في الأجل الطويل، لا ينفصم عن توازنات القوى الموجودة قبل الثورة وأثناءها وبعدها؛ بل هو يتحدد بها بشكل كبير. يعبر المشهد المصري الحالي عن حالة فجة من عدم توازن قوى الثورة مع القوى المضادة التي تمتلك كل أدوات الهيمنة من المال إلى القوة المسلحة إلى الإعلام.
هذا الخلل في التوازن حدد شكل الصراع الحالي والذي يتسم بعدم الحسم إلى الآن. تشير الدراسات المقارنة للعدالة الانتقالية، ومن ضمنها عملية التطهير، إلى أن العامل الحاسم في إمكان تحقق ونجاح العدالة الانتقالية من عدمه هو قدرة الثوار على تحقيق الانتصار التام أو حتى على التفاوض على شكل المستقبل مع النظام القديم، وكلاهما لم يحدثا في مصر، مع جميع أطراف الثورة.
قد تساعد مراجعة سجل التطهير في التجارب الدولية في تخفيف حدة الاتهامات ليحل محلها بعض التفهم المطلوب من الجميع. بالاستعانة بقاعدة بيانات تجارب العدالة الانتقالية التابعة لجامعة ويسكونسن الأمريكية نرى أن عملية التطهير كأداة من أدوات العدالة الانتقالية قد جرت في 34 حالة فقط من مجموع 236 حالة عدالة انتقالية جرت في 27 دولة فقط من 80 دولة حول العالم منذ 1970.
بعملية حسابية بسيطة، يظهر أن عملية التطهير لمسؤولي النظم السابقة لم تستحوذ إلا على 14.4٪ فقط من أدوات العدالة الانتقالية، ولم تجر سوى في حوالي 33٪ من الدول التي تبنت مسار العدالة الانتقالية.
هذا يعني أن الصراع فيها من المرجح أنه انتهى إما بالتفاوض أو النصر للثورة. وفيما يتعلق بتطهير الشرطة، نجد أنه قد حدث في 4 دول فقط من الـ 34 التي حدث فيهم التطهير، فيما لا نجد أثرًا لعملية تطهير واحدة قد حدثت للقضاء، وذلك وفقًا لقاعدة البيانات.
تؤكد هذه النتائج على صعوبة تحقيق العدالة الانتقالية بشكل عام والتطهير بشكل خاص في ظل عدم وجود سلطة قوية مؤيدة لمسار الثورة والإصلاح تأخد على عاتقها تنفيذ هذه العملية ومقاومة أي تردد أو تحايل من النظام القديم.
وعلى الرغم من قلة انتشار تجارب التطهير في الحقيقة، فعند التدقيق في توقيت تنفيذ عملية التطهير في الدول التي نجحت في تنفيذه، نجد أنها تميل إلى البطء والمرحلية. كانت أسرع التجارب هي تشيكوسلوفاكيا عندما بدأت عملية تطهيرالجهاز الحكومي من المتعاونين مع أجهزة الأمن السرية وأعضاء الحزب الشيوعي بعد عام تقريبًا من انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في 1990، لكن انفصال التشيك عن سلوفاكيا في 1993 حرمنا من متابعة نتائج العملية.
كانت بلغاريا هي الثانية في قائمة المنفذين لعمليات التطهير؛ إلا أنه من الملاحظ أن هذه العملية استغرقتها سبع سنوات طويلة ومريرة؛ حيث بدأت العملية في 1992 بسن قانون يمنع أعضاء النظام القديم من التوظيف في الحكومة، إلا أن هذه القانون تم إلغاؤه في 1995. لم تنته المعركة عند هذا؛ حيث تم سن قانون آخر في 1998 يمنع أعضاء الحزب الشيوعي من تقلد مناصب عليا في الدولة، لكن في 1999 تم الحكم بعدم دستوريته وتم إلغاؤه. يبدو أن مسار التطهير فعلًا طويل وغير مضمون النتائج، لكنه يعكر صفو المفسدين ويضعف من تأثيرهم على مسار الإصلاح، على الأقل.
** ** **
في مِصر ثورةٌ برسم التحقق تخمرت أسبابها بانتظار نُضجٍ قريب؛ لهذا لا يجب أن تدعونا هذه النتائج إلى الكف عن المطالبة بالتطهير، لكنها بالأحرى تدعونا إلى التواضع عند تحليل أسباب فشله في مصر وربما تونس وباقي بلدان الربيع العربي. لا ينبغي لأحد أن يدعي بيقين كامل أن أحد الأطراف خائن أو عميل لمجرد عدم تحمسهِ للتطهير في البداية، فكما رأينا أن توازنات القوى لم تكن في صالح أي من قوى الثورة في لحظة تمكنها غير الكاملة، وأن العملية بطبيعتها تستغرق وقتًا وقد تتأخر في بدايتها من الأصل. تدعونا النتائج أيضًا إلى تلمس سبل بناء صف ثوري موحد حول قضايا مُعَرَّفةٍ والحشد حولها بمطالب واضحة ومحددة؛ وذلك من أجل تحقيق النصر الكامل الذي يمكن من فرض التطهير والتغيير، وهو ما نحتاج إليه في الفترة المقبلة.
الأهم من هذا في رأيي، هو عدم فصل التطهير عن هيكلة المؤسسات بشكل عام؛ وهو ما يتطلب فهمًا لدورها في فرض العقد الاجتماعي الإذعاني المهترئ الحالي وكيفية بناء مؤسسات العقد الجديد، وهو ما سيتم تناوله في المقال القادم.
………………………………………
نقلا عن: “التقرير”.
إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟
ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …














