العاصمة الجديدة ..عندما يريد الأثرياء الانعزال عن الفقراء
من بين صيغ التفضيل التي يمكن استخدامها لوصف المشروع الفرعوني الأكثر انتظارًا والأنسب، فنموذج العاصمة الجديدة التي لا اسم لها حتى الآن يكشف عن مدينة ضخمة ومستقبلية ومستوحاة من المدن المترفة في الخليج -ودبي على وجه الخصوص-، وقد أصرّ عبد الفتاح السيسي على بداية المشروع فعليًّا بعد خمسين يومًا من المؤتمر الذي عُقد في شرم الشيخ يوم 15 مارس الماضي؛ ولكنّ المشروع ليس متوقّفًا فحسب؛ بل محلّ انتقاد أيضًا، وتبرر الحكومة عجلتها بازدحام القاهرة والرهانات على النفوذ الاقتصادي إلا أن هذه الأسباب مشكوك فيها، والنتائج غير مؤكدة حتى الآن؛ حيث باءت جميع محاولات نقل المراكز الحضرية بالفشل وعلى الرغم من التكلفة الباهظة لهذا البرنامج الجديد -43 مليار يورو- لن تعزّز العاصمة الجديدة التنمية في البلاد؛ بل قد تعزّز الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وفقًا لفريق الإدارة؛ هذه مسألة حياة أو موت: تُعد القاهرة الكبرى 18 مليون نسمة، ومن المرجح أن تصل إلى 40 مليون بحلول 2050، والمدينة الكبيرة على وشك الاختناق، ومن المتوقّع أن يخفّف بناء عاصمة جديدة الازدحام في المناطق الحضرية من خلال نقل 5 مليون شخص إلى مليون وحدة سكنية جديدة. إلّا أنّ الهدف المعلن بالتقليل من الازدحام، والذي يعطي المشروع بُعدًا وطنيًّا، مضلّل. ففي الواقع، سيستمر عدد سكان القاهرة الكبرى في الارتفاع بالملايين إلّا إذا تمّ التركيز على الأثرياء الذين يعانون من الاختناقات المرورية عندما يُجبَرون على التنقّل إلى القاهرة، وإذا ما نقلت الوزارات والإدارات إلى العاصمة الجديدة بالقرب من المحلات التجارية، والمراكز الطبية، والمراكز التجارية، والمؤسسات التعليمية الأخرى؛ سيكون من الممكن العيش فيها دون الاضطرار إلى زيارة العاصمة؛ وبالتالي يستهدف المشروع الطبقة العليا؛ مجموعة أقلية متكوّنة ممّا يزيد قليلاً عن المليون شخص يكسبون أكثر من 12 ألف يورو سنويًّا؛ ولكن حتى من بين هؤلاء “المحظوظين” عدد قليل نسبيًّا قادر على شراء شقّة مقابل ألف يورو للمتر المربّع الواحد.
وحدات سكنية باهظة الثمن
منذ نحو 40 عامًا، سعت الحكومات إلى خلق تجمّعات جديدة في الصحراء، في حين أنّ في الفترة نفسها تضاعف عدد السكان، مليون ساكن فقط يعيشون في الـ 22 مدينة جديدة، وقد فشلت هذه التجارب؛ لأنّ الحكومات تركت تخطيطها وتنميتها إلى القطاع الخاص غير المهتم ببناء وحدات سكنية اجتماعية أقلّ ثمنًا. ولئن بُنيت وحدات شعبية فإنّ عددها لايزال غير كافٍ ولا سيما أنه قد ارتفع الضغط على هذه المباني مع وصول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين.
وفي نهاية المطاف؛ تعدّ هذه المدن الجديدة من مئات الآلاف من المساكن الشاغرة؛ ولكنها بعيدة عن متناول معظم المصريين الذين هم في أشدّ الحاجة إليها، ولم تطوِّر الدولة التي تريد مدنًا مستقلة النقل العمومي (القطار والمترو)، وهكذا لا يجد العمّال في المنطقة الصناعية في 6 أكتوبر (التي يُعدّ تطويرها نجاحًا) وحدات سكنية بثمن منخفض ليضطرّوا إلى القيام برحلة يومية من ضواحي القاهرة ممّا يزيد من الضغط على محاور الطرقات في ساعات الذروة. وقد وضع القائمون على المشروع تصوّرًا للنقل العام؛ ولكن من الصعب معرفة إذا ما كانت وسائل النقل ستكون كافية ومتاحة لجميع الميزانيات. ومن المقرّر أيضًا بناء مساكن اجتماعية ولكن لا نعرف -حتى الآن- نسبتها.
تراهن الحكومة على هذا المشروع الجديد لإنعاش النموّ، وهنا أيضًا من الضروري الحذر؛ إذ من المؤكّد أن هذا المشروع سيسمح بالتشغيل الفوري لعدد كبير من العمّال مع المشروع الضخم الآخر حول قناة السويس، والّذي يوظّف الآلاف من العمّال والمستثمرين لبناء العديد من الأحياء السكنية والسياحية بمليارات اليوروهات؛ ولكن مخاطر نقص اليد العاملة المحليّة والمعدّات حقيقة، ثمّ ماذا سيفعل هؤلاء العمّال بمجرّد الانتهاء من أعمال البناء؟ وعلاوة على ذلك، ستؤثّر كلّ هذه المشاريع حتمًا على أسعار مواد البناء على حساب ما تبقّى من قطاع البناء والتشييد. وقد أعلن المطوّرون عن خلق مليون موطن شغل في العاصمة الجديدة، وفي الواقع هذه وظائف منقولة لا مبتكرة إذ سيؤدي نقل الإدارات والسفارات إلى تدمير الوظائف الصغيرة الّتي تعيش على وجودها، والّتي قد تعود ربّما إلى الظهور في العاصمة.
وعلى الرغم من التحفّظات، أبدى المستثمرون اهتمامًا بهذا المشروع فمع الحملات الإعلامية الكبيرة، بإمكانهم بيع المساكن الموضوعة بشكل مثالي: على بعد 60 كم من القاهرة، ستمتد العاصمة الجديدة على مساحة 700 كم مربّع بيع محور القاهرة -السويس ومحور القاهرة- العين السخنة (مدينة ساحلية على البحر الأحمر)؛ ولكن لا يمكنها أن تسكن فيها العائلات الثرية إلّا على حساب الأحياء السكنية العديدة في المدن الجديدة الأخرى والّتي بُنيَت من قِبَل مستثمرين من القطاع الخاص ونصف مساكنها فارغة.
خمس سنوات للانتهاء من أعمال البناء
وكما جرت العادة؛ الحكومة بخيلة في مجال التواصل، وبالإضافة إلى أهدافها المثيرة للجدل، هناك حاجز يحول دون التفاؤل بالمستقبل؛ إذ يأسف بعض المصريين والمحللين إلى أنّ خطّة بهذه الأهمية والرمزية لم تناقش وتطرح للتصويت في البرلمان المنحلّ منذ ثلاث سنوات، فالقرارات الحاسمة في البلاد تتّخذ من قِبَل دائرة ضيّقة من الناس دون مواجهة أي شكل من أشكال السلطة المضادّة. ويرحّب دان رينالشتاين -المهندس المعماري في .S.O.M، الشركة الأمريكية المسؤولة عن تصوّر الخطط والتصميم- بالانتقادات؛ إذ يريد أن يناقش الشعب وتطوير المشروع وفقًا لذلك؛ ولكن أمنيته الجديرة بالثناء تواجه من قبل مطالب الرئيس المصرّ على أن يبدأ المشروع فعلاً في الـ 50 يومًا الموالية للمؤتمر، والّذي اعتبر أنّ السنوات العشر الّتي خصّصت في البداية للتنفيذ طويلة للغاية، مؤكّدًا -خلال المؤتمر الاقتصادي- أنّ خمس سنوات ستكون كافية.
ولئن لم يتمّ بعد إدراج التقصير في المواعيد النهائية في الميزانية؛ فإنّ التكلفة المبدئية للمشروع الشامل تقدّر بـ 43 مليار يورو. وقبل انعقاد المؤتمر؛ أكّد وزير الاستثمار “سلمان أشرف” في صحيفة إماراتية أنّ مصاريف التمويل سيقوم القطاع الخاص بتحمّلها بالكامل. ويوم 23 مارس أعلن وزير الإسكان أنّ حصّة الحكومة سترتفع من 15 – 20 % إلى 24 %. وزاد السيسي من الارتباك بإعلان أنّ بناء العاصمة الجديدة لن يعتمد على الموازنة العامّة للدولة؛ ولكن سيموَّل من قِبَل مستثمرين من القطاع الخاصّ. وقد أعطيت الأراضي بالفعل من قِبَل الحكومة إلى سيتي كابيتال بارتنرز -صندوق استثمار عقاري برئاسة الإماراتي محمّد العبّار- المؤسسة المسؤولة عن تنفيذ المشروع. وبالإضافة إلى ذلك، بدأ الجيش في بناء طريق يربط بين القاهرة والعاصمة المستقبلية.
ومن الصعب أيضًا تقييم التكلفة البيئية؛ إذ لا تعاني مصر من نقص في الماء إلّا أنّها تعتزم إنشاء مساحة خضراء في العاصمة الجديدة مرّتين أكبر من الـ”سنترال بارك”، والعديد من المساحات الخضراء ومنتزه ترفيهي مساحته أربع مرّات أكبر من ديزني لاند. ويأمل رينالشتاين في استخدام مياه الأمطار في منطقة يتساقط فيها نحو 10 مم سنويًّا، وحتّى مع الوسائل الفعالة لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي سيكون التأثير على الموارد ضروريًّا وعلى مستوى الطاقة، تبيّن صورة وهمية من الأقمار الصناعية مستخدمة لأغراض ترويجية المنطقة مشرقة للغاية (أكثر من القاهرة نفسها)، في بلد يعاني من الانقطاع المتكرّر للتيار الكهربائي. ويبدو أنّ مصر اختارت من أجل عاصمتها الجديدة الطاقة المتجدّدة باعتبار أنّ الألواح الشمسية ستحتلّ 90 كم مربّع من مساحتها. وفي الوقت نفسه؛ وقّعت الحكومة خلال المؤتمر الاقتصادي مذكّرة تفاهم من أجل بناء أكبر مصنع للفحم في العالم.
“ماذا سيحدث لنا، نحن القاهريين؟!”
في مقال نقدي، تساءل أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في القاهرة “خالد فهمي” بقلق: “ماذا سيحدث لنا، نحن القاهريين؟! كيف ستصبح العاصمة الّتي تضمّ أكثر من 20 مليون ساكن؟! وأي موقع لهؤلاء السكان في خطط الحكومة للعاصمة الجديدة؟!“. إنّ اختيار الحكومة يعطي هذا الانطباع غير السارّ بالاعتراف بالفشل في إدارة القاهرة؛ ولكنّ الدولة ليست غير مهتمّة تمامًا؛ فالجدران المكافحة للشغب الّتي احتلت الشوارع قد فُكِّكَت وتمّ تنظيف ميدان التحرير وترميمه، ومنذ نهاية عام 2014 بدأت السلطات أيضًا في تنظيف شوارع وسط المدينة (التحرير والشوارع المجاورة) من الباعة الصغار الّذين استقرّوا على الأرصفة.
وينتظر هؤلاء الباعة الصغار الّذين نُقلوا إلى موقف سيّارات مهجور فرضيّة أن تتوفّر حديقة لتُحوّل إلى سوق، وتعاني المقاهي الصغيرة -الّتي تضع كراسي بلاستيكية على حسب عدد الزبائن على الأرصفة- من المضايقات أيضًا. كلّ هذا من أجل تطهير وسط المدينة الّذي يحظى بحب المصريين كما الأجانب. أمّا الفقراء فيتواجدون في أماكن أخرى، وعلى الرغم من أنّهم يشكلّون الأغلبية الساحقة، باتوا غير مرئيين في عيون الأثرياء. وقد أعلنت الحكومة عن مجموعة من التدابير لمعالجة مشاكل الإسكان الّتي يواجهها العديد من المصريين؛ إذ أطلق عبد الفتاح السيسي في مارس 2014 مشروعًا كبيرًا لبناء مليون وحدة سكنية اجتماعية قبل 2020، وأُوكِلَت أعمال المشروع إلى مستثمر إماراتي؛ ولكن في مقال نشر على موقع “مدى مصر”، قدّرت “إيزابيل إسترمان” سعر هذه الوحدات السكنية بـ 25 ألف يورو للوحدة أيّ يفوق ثمنها قدرة أغلبية المصريين. وعلى الرغم من أنّ ميزانية 2014 – 2015 تنصّ على تخصيص الدولة لـ 1.35 مليار يورو للاستثمار في المساكن الجديدة، سيستفيد الأكثر فقرًا من 7 ملايين يورو فقط.
ملجأ للأقلية الثرية
تراهن الحكومة على مشروع ضخم بنتائج غير مؤكَّد ولا يخصّ إلاّ الأقلية الصغيرة الثرية في البلاد. والأولوية تكمن في خفض الازدحام في القاهرة إلّا أنّ الاستثمارات يجب أن تُوجّه نحو بناء خطوط جديدة للمترو والمساكن الاجتماعية؛ حيث سيجعل هذان الخطّان التنمويان المدن الجديدة أكثر جاذبية، ويعزّزان النمو، ويتيحان الفرصة نحو توزيع أفضل للسكان على الأراضي.
إن “موقع (العاصمة الجديدة) في مأمن من زحف الجماهير السلمي، والأسوار المحتمَلة ستكون مرتكزات للتحصين ضد العدوان المسلح. والشوارع الفسيحة هي الساحة المثالية لآلة البطش، فلن نسمع عن اعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء، ولا احتجاج أمام بوابات الوزارات” حسبما أتى في مقال “إسماعيل الإسكندراني” في صحيفة “السفير” البيروتية يوم 17 سبتمبر 2014. ومثلما نقل لويس الرابع عشر إدارته وساحته إلى قصر فرساي، ستلجأ الحكومة المصرية مع أثريائها بعيدًا عن مواطن الاحتجاج وبعيدًا عن الفقر والبؤس، وفي حين أنّ مصر الفقيرة ومصر الغنية لاتزالان متجاورتين في القاهرة، ربّما قد ولّى هذا العصر مع العاصمة الجديدة وستصبح القطيعة بين الفقراء والأغنياء تامّة.
إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟
ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …