‫الرئيسية‬ ترجمات ودراسات لماذا وجدت أوروبا الشرقية طريق الحرية وفشل ربيع العرب؟
ترجمات ودراسات - أبريل 17, 2015

لماذا وجدت أوروبا الشرقية طريق الحرية وفشل ربيع العرب؟

في 19 أغسطس عام 1991، ظهر غينادي ياناييف، نائب رئيس الاتحاد السوفياتي، على شاشات التلفزيون؛ ليعلن أنّه وسبعة من زملائه في “لجنة الدولة لحالة الطوارئ” كانوا يسيطرون على ثاني أقوى دولة في العالم. المغتصبون، والشخصيات البارزة في القيادة السوفيتية، عملوا وفقًا للاعتقاد بأن إصلاحات النظام السياسي والاقتصادي التي يقوم بها ميخائيل جورباتشوف كانت تأخذ الاتحاد السوفييتي إلى حافة التفكّك.

أفرغت هذه اللجنة السجون -بعد أن اعتقلت جورباتشوف، أثناء عطلته، من بيته في ساحل البحر الأسود- في ظل توقع القيام بآلاف الاعتقالات؛ واستولت على منافذ الإذاعة والتلفزيون؛ وأعلنت حظر التجول؛ ونشرت قوات النخبة والمشاة في مراكز المدن، وخاصة موسكو. وكانت هذه بداية “انقلاب أغسطس”.

خلال ساعات، احتشد الآلاف من المواطنين أمام البرلمان الروسي (المعروف باسم “البيت الأبيض”). أغلق بعض المتظاهرين الأنفاق بحافلات تابعة لشبكة النقل في المدينة لتعيق حركة تقدم الدبابات. قُتل ثلاثة رجال كانوا يواجهون هذه الدبابات، هم: ديمتري كومار، إيليا كريشفسكي وفلاديمير أوسوف. وأخبر ضباط الجيش قادة الانقلاب أنهم لا يستطيعون تحقيق أهدافهم دون مواجهة هذه الحشود. كان حمّام الدم أمر لا مفر منه. أدرك قادة الانقلاب أنهم لا يريدون حدوث مذبحة لشعبهم. وفي 21 أغسطس، امتثلوا للواقع، وتخلوا عن خططهم، وتم اعتقالهم.

كانت هذه آخر حلقة في دراما سقوط الشيوعية في جميع أنحاء شرق ووسط أوروبا، حيث تنازلت النخب المحلية الحاكمة، في مواجهة المظاهرات الحاشدة، عن السُلطة بدلًا من اختيار القمع الدموي.

في عام 1989، تصاعدت مسيرات شعبية في جمهورية ألمانيا الشرقية، قادها إريك هونيكر للسماح بالسفر بحرية إلى ألمانيا الغربية، وبالتالي سقوط جدار برلين. أدى هذا إلى انتهاء مصير النظام نفسه، بطريقة أوضحت أن عصر إسقاط المدنيين العزل قد انتهى. بعد عقد من الزمان، أُطيح بالزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش في أكتوبر 2000 وسط مظاهرات حاشدة اتهمته بتزوير الانتخابات. وكانت عشرات الآلاف من القتلى هم الإرث الذي تركه ميلوسيفيتش، ولكن لم يُقتل أي شخص في هذه الأيام الأخيرة. في السنوات اللاحقة، سلسلة من الثورات السلمية المماثلة -“الثورات الملونة”- اجتاحت جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان.

تناقض مزدوج

في نهاية العقد، في ديسمبر 2010، بدأت عملية تاريخية عالمية أخرى، عندما أحرق شاب تونسي يُدعى محمد البوعزيزي، نفسه وأشعل سلسلة من الاحتجاجات التي أطاحت برئيس البلاد، زين العابدين بن علي. الانتفاضات التي أعقبت ذلك في كثير من أنحاء العالم العربي أدت إلى تصوّر العديد من المحللين أن الشرق الأوسط بدأ موجة الديمقراطية.

وكانت الفكرة السائدة بأن التغيير الليبرالي الديمقراطي من شأنه أن يغيّر هذا المعقل الأخير للأنظمة الاستبدادية. لكنّ التمرد في مراحله الأولية لم يشبه الثورة الديمقراطية، قاد هذا التمرد مجموعة من الشباب المثقف، ومجموعة من الطبقة المتوسطة المعارضة لفساد النظام القديم والمحسوبية، تطالب بالحرية، والتحول السلمي للسُلطة، والديمقراطية وتوفير فرص عمل.

ولكن بعد أكثر من أربع سنوات، شاركت معظم دول العالم العربي في صراعات انتخابية قوية في البرلمانات والمنابر السياسية واحترقت في سلسلة من الصراعات العنيفة. من سوريا إلى ليبيا، ومن واليمن إلى العراق، تدمر الحرب حياة الإنسان، وحتى الحضارات بأكملها. ماذا حدث؟ لماذا أدت الرغبة في السُلطة والحُكم إلى الغرق في الدماء؟ الفهم الواضح لهذه المسألة هو أمر ضروري إذا كنا نريد طريقًا للخروج من دوامة التدمير الذاتي التي نعيش فيها. هنا، مقارنة مع الثورات في أوروبا الشرقية، على مستويين، ربما تكون مفيدة.

المستوى الأول هو الأنظمة التالية واستخدامها للعنف. قام النظام الشيوعي الحاكم في أوروبا الشرقية على انتهاك جماعي لحقوق الإنسان، وبعد فترة طويلة من الستالينية، اعتمد وجود هذا النظام على القمع المنهجي. عندما تولى غورباتشوف السُلطة في عام 1985، كان الاتحاد السوفياتي يمتلك شبكة واسعة من معسكرات الاعتقال في جميع أنحاء أراضيه؛ وفي بداية التسعينيات، شنّ نظام ميلوسيفيتش -بعد توحيد السُلطة في صربيا- حروب إبادة جماعية عبر يوغوسلافيا المُفكّكة واستخدم فرق الموت لقتل المعارضين المحليين. ولكن عندما ازداد زخم الحِراك الشعبي، وجدت النخب الشيوعية الحاكمة نفسها مُنقسِمة، غير متأكد من شرعيتها، ومترددة بشكل كبير حول استخدام القوة ضد المواطنين الغاضبين ولكنهم كانوا سلميين أيضًا.

في الربيع العربي، على النقيض من ذلك، كانت الأنظمة الحاكمة مستعدة لاستخدام القوة. حاول بن علي وحسني مبارك قمع الحركة الشعبية بالقوة، وبمرور الوقت ترك زين العابدين بن علي السُلطة في منتصف شهر يناير 2011، بعد قتل 338 من التونسيين، وفي الأسابيع الثلاثة من الاحتجاجات الشعبية في مصر التي بلغت ذروتها عند استقالة مبارك في 11 فبراير، قُتل 800-900.

في ليبيا واليمن، تقدمت الانتفاضات الشعبية ضد الحُكام وكانت على استعداد لاستخدام العنف لحماية قوتهم، قبل أن تتفكك كلا البلدين بسبب الحرب الأهلية. في سوريا، شنت الطبقة الحاكمة حربًا شاملة ضد شعبها، ودمرت مدن بأكملها بالمدفعية وصواريخ أرض-أرض، والبرميل المتفجرة (اختراع محلي). بعبارة أخرى، وجد حاملو السُلطة في العالم العربي مبررًا لاستخدام القوة المفرطة ضد أولئك الذين يطالبون بتغيير سياسي سلمي.

المستوى الثاني هو الأنظمة الفكرية والمثقفين. كان العديد من المفكرين في أوروبا الشرقية لديهم إيمان قوي بمفهوم العنف الثوري باعتباره وسيلة مشروعة للمضي قُدمًا داخل مجتمعاتهم: إسقاط الأنظمة السياسية القديمة وخلق مسار نحو عصر التصنيع. لكنّ عقودًا من الاضطرابات والحروب، والحكم الاستبدادي باسم الشيوعية، كانت مقنعة للمثقفين المعارضين بأن العنف لن يحقق أي شيء. كان ربيع براغ عام 1968، وشعاره “اشتراكية ذات وجه إنساني”، نقطة تحول؛ بعد أن سحقته دبابات الجيش السوفيتي، تبنى المثقفون في أوروبا الشرقية فكرة التغيير التدريجي، غير العنيف.

في العالم العربي في عام 2011، لم يكن هناك أي إجماع استراتيجي حول كيفية تحقيق التغيير. ألهمت تجربة شرق أوروبا بعض الأفراد من الطبقات الوسطى، ولكن في جميع أنحاء المجتمع تأثر المزيد من الأشخاص بالإسلام السياسي -في وقت كان هذا التيار عُرضة بشكل متزايد لتفسير عنيف.

وفي ظل هذا الاتجاه المتشدد، لم يكن الإسلام السياسي استثناء، وإنما استمرارًا لهذا الاتجاه؛ إذ أصبحت الأيديولوجيات السابقة في العالم العربي مهووسة بالعنف. وشهدت المنطقة أجيالًا من الحركات السياسية من ميثولوجيات سياسية متنوعة -القومية التركية، العروبة البعثية، والفصائل الفلسطينية ذات الميول القومية أو الاشتراكية- والتي على الرغم من ذلك تقاسمت ثقافة العنف.

الإسلام السياسي في شعاراته الأولى، سواء تحت راية الإخوان المسلمين أو حزب التحرير، كان حذرًا بشأن العنف. ولكن مع ظهور جيل جديد من المتطرفين السلفيين الجهاديين، أصبح العنف غير المحدود والعشوائي محور تفكيرهم.

نفق بلا نهاية

في أوروبا الشرقية، أثبت المثقفون أنهم جماعة اجتماعية متماسكة. وفي ظل خسارة طبقة نومنكلاتورا الشيوعية سلطتها، لعب المثقفون الصاعدون من أصحاب المبادئ الديمقراطية والمكانة الأخلاقية دورًا رئيسًا في ضمان الاستقرار والانتقال السلمي للسُلطة. دون مساهمتهم، لأصبح من الصعب إنشاء النظام الجديد والمؤسسات والممارسات السياسية. وعلى الرغم من كل شيء، لم تكن الديمقراطية البرلمانية هي البديل الوحيد للنظام السوفييتي المنهار: في يوغوسلافيا السابقة أو في القوقاز، أدت القومية المتطرفة إلى العديد من الحروب والكوارث.
في العالم العربي، فإنّ المثقفين ليسوا تلك الجماعة الاجتماعية المتماسكة ذات الثقافة والمرجعية المشتركة. ولم يخلق “الربيع العربي” هذه الجماعة؛ إذا كان من الممكن أن نتحدث عن الشباب العربي كقوة دافعة للأحداث في الأيام الأولى، لم يبرز أي من المثقفين العرب كقوة اجتماعية قادرة على مسانده قيادة جديدة محترمة أو توجيه الحركة من الأسفل في اتجاه إيجابي. ولكن بدلًا من ذلك، أدى التنافس على قيادة الحركة الاجتماعية الجديدة، إلى التطرف الأيديولوجي، الأمر الذي شجع، في سياق الحرب، القبول العام للعنف.

اليوم، يستمر العنف في تدمير كل شيء يقف في طريقه -المناطق الصناعية والأحياء السكنية، وبقايا الحضارات الماضية- وقليل من الناس يتذكرون لماذا بدأت الثورات، وما هي الأهداف التي من المفترض أن تحققها الحروب الحالية. في منطقة يوجد بها تحالفات متغيّرة وعدد كبير من التدخلات الأجنبية، يجري التضحية بجيل جديد إلى نار العنف؛ هذه التضحية لن تحقق الخلاص لأحد، ولكنها ستجلب معاناة أبدية. العالم العربي بحاجة ماسة للتخلص من ثقافة العنف.

في يوم 20 مارس عام 2015، دخل أربعة من الجهاديين مسجد بدر في صنعاء، اليمن، كانوا يرتدون أحزمة ناسفة، مما أسفر عن مقتل 137 شخصًا. لم يهاجم هؤلاء الجهاديون مقاتلي العدو، ولكنهم هاجموا مدنيين كانوا يعبدون الله في المسجد. قارن هذا العمل بما قام به غينادي ياناييف وزملاؤه السبعة الآخرون في أغسطس 1991، وجميعهم من الشخصيات السياسية البارزة في الاتحاد السوفياتي.

بعد شهور من التخطيط للانقلاب العسكري، ومن ثم تنفيذه، توصلوا إلى خيار: إما مواصلة خططهم وفتح النار على المدنيين السلميين، أو التخلي عن مشروعهم. اختاروا الاستسلام، وفضلوا حياة الناس عن الدولة التي كانوا يحاولون إنقاذها.

المصدر الأصلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …