‫الرئيسية‬ مقالات «جيـل بَـراء».. مَـرْثِـيَـةٌ حزينة
مقالات - سبتمبر 10, 2015

«جيـل بَـراء».. مَـرْثِـيَـةٌ حزينة

بدايةً.. لم أكن صديقًا لبراء أشرف.

كانت بيننا معرفةٌ عامة، ومشروعُ عملٍ لم يبدأ ليكتمل. ثم دعوةٌ منه للمشاركة في الإشراف على صفحةٍ كنتُ قد دعوتُ إلى فكرتها في صفحتي محدودةِ الانتشار، وبادر هو، بحيويته ونشاطه وانتشاره، إلى ترجمتها في عملٍ جمَّع الآلافَ، ولا يزال، رغم أنه (ذاك العمل) صار “تاريخًا”، موجِعًا. ولستُ من “جيل براء”، إلا أن أُعَدَّ من “حواشيه”، من جهة العمر فقط، لا من جهة حيويته ونشاطه، ورُوحه.

جيلُ براء، الذي هو في القلب منه تمامًا: عمرًا وعملًا، هو في حدود عمره الذي غادرَنا عنه: ثلاثين.. تَـقِلُّ عشْرًا، أو تزيد عشْرًا. تقريبًا.

هذا الجيلُ المفجوعُ في ثورته التي حاولَها وهو في حدود الخامسة والعشرين من عمره، يَـقِـلُّ عشْرًا، أو يزيد عشْرًا. تقريبًا أيضًا.

هذا الجيلُ الـمُجْهَضةُ أحلامُه، حتى وإن كان كثيرٌ منها مبتسَرًا، لم تتحقق شروطُه الموضوعية، ولا ظروفُه المجتمعية، وإن بدت الشروط والظروف حاصلةً خلال بضعةَ عشَر يومًا، كانت، هي الأخرى، حُلْمًا جميلًا محلِّقًا مجهَضًاً.

هذا الجيلُ الذي لم تدعْ له “دولةُ العواجيز” البغيضةُ الشائهةُ سبيلًا لفرحٍ، أو أملٍ، أو حتى حُلْم. وإن كان ساذَجًا! فشابَ قبل الأوان، واخْتُضِر أنضجَ ما يكون، وأنشطَ، وأبدعَ. هذا الجيلُ.. يستحقُّ أن يُبكَى علية بحسرةٍ من خلف سِتْر التاربخ وحُجُبه، كما أوصى أبو فراسٍ الـحَمْدانيُّ ابنتَه قبل ألف سنةٍ:

نُوحِي عَلَيّ بِحَسْرَة / من خَلفِ سِـتْـرِك وَالحجابِ. قُولي إذَا نَادَيْتِني/ وعَيـيتُ عنْ ردِّ الجوابِ.

زَينُ الشبابِ، أبو فِـرا/ سٍ، لمْ يُـمَـتَّـعْ بِالشّبَابِ.

هذا الجيل، زَينُ الشباب والفتيات، لمْ يُـمَـتَّـعْ بِالشّبَاب. وله، ولأمثاله كلَّ حِقبةٍ كئيبةٍ كبيسةٍ مظلِمةٍ، كتب سعدالله ونُّوس ما كتب لابنته دِيْمة. كانت ديمة (وهي في القلب، أيضًا، من “جيل براء”) في نحو العاشرة من عمرها، حين كتب لها أبوها واحدًا من أكثر إهداءات الكتب عُلوقاً في ذهني، وأثراً في نفسي، منذ قرأتُه أولَ مرة قبلَ نحو عشرين سنةً. أعني إهداءه مجلدَ أعماله الكاملة الأولَ إلى ابنته، وإلى أبناء وبنات جيلها (وأبناء “جيل براء” لن يَـصعُب عليهم أن يجدوا هذا الإهداء).

كنتُ أُمنِّي نفسي أنني سأُهدي الحسنَ والـحُسين، ابنيَّ، “أفضل” منه. ولا أشكُّ في أن براء كان يتمنى مثلَ أمنيتي لـمَليكة وكَرْمة، ابنتيه.

أتذكّر دومًا تلك الكلمةَ “المنزوفةَ”، لا “المكتوبةَ”، في أحوالنا الـمُرَّة، والـمَريرةِ في آنٍ. ويؤسفني أنني لا أملك ما مَلَك ونَّـوس من رحابة الـحُلْم لأقول في النهاية، كما قال: “ما يحدث الآن ليس نهايةَ التاريخ.. إننا محكومون بالأمل”. نعم.. ليست هذه الـحِقْبة نهايةَ “التاريخ”. لكن، يؤسفني أنني أعتقد أنه نهاية “تاريخنا”، نحن.. أبناءَ هذا الجيل، “جيلِ براء”.

هل يمكننا، بعد كل ما عايَـنَّا، ونعاين، أن نظلَّ محكومين بالأمل؟ هل يَسعُني ما قلتُه، أنا، قبل نحو عشر سنين: “الأملُ (الغامضُ أحيانًا.. البعيدُ دائمًا) هو سَلوتُـنا الوحيدة، بالإضافة إلى ما تيسَّر من سعيٍ وجُهد، وإلا، فما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ. كما يقول صديقنا أبوالطيب”؟

أنا، الآنَ.. وهنا، وبصورةٍ شخصيةٍ، أتمنى ألا تكون دائمةً ولا عامَّـةً، لا أستطيع أن أظلَّ هكذا. لا أستطيع، الآن، إهداءَ ابنيَّ شيئاً مِثْـل ما أهدى ونُّـوس ديمةَ وأبناءَ جيلها، على طول ما تمنيت. اعتقادي أنني من الجيل الذي سيشهد تفكُّكَ هذا النظام العربي المنخور والعفِن، بحيث ستغدو منطقتُـنا المنكوبةُ شكلًا آخر على خارطة الأرض.

ما يمكنني تَـمَـنِّـيه: ألَّا يَـطولَ كونُ شكلها الجديد، الذاهبةِ إليه، أبشعَ مما هي عليه الآن، وأن يَـشهدها ابنايَ وابنتا براء، وجيلُهم وقد طُهِّرت من أوساخها ومخلَّفات حِـقبة “الانهيار المديد” هذه.

ليس حزني هنا نتيجةً مباشرةً وسطحيةً لفقد براء الذي لم يكن صديقًا شخصيًّا. بل هو رَشْحُ حزنٍ بدأ يتعتَّق منذ مغرب يوم 11 فبراير 2011، على الرغم مما انتابَ “جُـلَّنا” من فرَح ساذَجٍ ساعتَها، وشعورٍ مضلِّلٍ بالانتصار.

ومع هذا، حاولتُ جاهدًا أن أخفف من انقباض هذا النص، ولو بالتحايل، ولو بالـمُداراة، ولو بحُلْمٍ آخرَ ساذَجٍ، لكنَّ خبر توقف موقع “التقرير” الذي لم أكن من كُتَّابه، على الرغم من محاولتي، قفز أمامي الآن على الشاشة؛ فتوقفتُ عن محاولة المخادعة هذه. ألم أقل لكم: يستحقُّ جيلُنا، جيلُ بَـراء، بكاءً حَسيرًا، وحزنًا عميقًا.

نحن جيلٌ لم “نُـمَـتَّـعْ بالشباب.

………………………………………………..

* نقلا عن صحيفة “العربي الجديد” اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …