‫الرئيسية‬ مقالات بل نجا.. وغرقنا
مقالات - سبتمبر 3, 2015

بل نجا.. وغرقنا

1-

يا الله!

ما هذا الفزع؟ ما هذا الوجع؟ ما هذا القهر؟ ما هذا الظلم؟ ما هذا الذل؟ ما هذا العجز؟ ما هذا الصمت؟ ما هذا الإجرام؟ ما هذا الجنون؟

طفل خرج من داره دون أن يعرف السبب، هربا من حرب لا يعرف أطرافها، حاول دخول بلاد لا يعرف اسمها، منعته حدود لا يعرف معناها، لجأ إلى بحر لا يعرف نهايته، سمع صرخات لا يعرف جدواها، غرق قبل حتى أن يعرف معنى الغرق، مات من قبل أن يجرّب الحياة.

الأكيد أن عيلان عبد الله كردي لم يشعر بالألم، صعدت روحه في هدوء يليق بسنواته الثلاث التي لم يرتكب فيها خطيئة، لكننا نحن من نتألم الآن، ألم يليق بعجزنا وخيبتنا، بتعاطفنا الذي يخفت سريعا، بتنظيراتنا التافهة حول من يتحمل المسؤولية، وبالكلام الذي لم نعد نملك غيره.

مات قبل “عيلان” مئات الأطفال السوريين، محترقين ببراميل بشار، ومذبوحين بسيوف داعش، ومتجمدين في معسكرات اللجوء، وغرقى في سفن الهجرة غير شرعية، بل إن شقيق عليان الأكبر “غالب – خمس سنوات” غرق معه في الحادث نفسه، وقذفت الأمواج جثمانه إلى شاطئ مجاور، لكن صورة “عيلان” من نوعية الصور التي تغير التاريخ وتمنح الضمائر التي شارفت على الانتهاء صدمة كهربائية تبعثها من جديد.

صورة “عيلان” ستبقى في ذاكرة العالم لعقود إلى جانب صورة الطفلة كيم فوك التي أنهت الحرب الفيتنامية، وصورة محمد الدرة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية، وصورة النسر الذي ينتظر وفاة طفل صومالي يصارع الاحتضار ليلتهم ما تبقى منه، والتي هزت العالم ودفعته لإرسال آلاف الأطنان من المعونات الغذائية لإنقاذ أطفال الصومال.

ربما تكون صورة عليان وسيلة لإقناع الحكام بأن الحدود لم تُبنى ليموت الناس على أبوابها، وبأن طلب تأشيرة مسبقة من سوري هارب من الجحيم أشد إجراما مما يفعله بشار وداعش، ربما تكون الصورة وسيلة لإقناعنا نحن الشعوب بأن السوريين الباحثين عن شاطئ للنجاة لا يملكون رفاهية التوقف لقراءة منشورات التعاطف على الـ”فيس بوك”، وبأن التعاطف سيكون أجدى إذا تحول إلى خطوات فعلية لإنقاذهم وإيواء أطفالهم.

 

2-

لا يرغب كثيرون في نشر صورة الطفل الغارق، يقولون إن ذلك لاعتبارات إنسانية، نعم، فاعتباراتنا الإنسانية اختفت حين كان الطفل يبحث عن مأوى وظهرت عندما أصبح يبحث عن قبر!

امتنعت غالبية الصحف المصرية عن نشر الصورة، يقولون ذلك لاعتبارات مهنية، نعم، فاعتباراتهم المهنية اختفت حينما كانوا ينشرون صور أشلاء ضحايا التفجيرات، وظهرت عندما تعلق الأمر بملاك نائم يتخذ من أمواج البحر وسادة.

لا يا سادة، الحقيقة أنكم جبناء، لا تريدون أن تذكّركم صورة “عليان” بما تفضّلون نسيانه، يؤلمكم تخيل أحد أطفالكم مكانه، ولا تريدون أن يحمل أحد النظام السياسي المسؤولية عما حدث له، فلولا شرط التأشيرة المسبقة التعجيزي ربما كان عليان الآن في حضانة بمدينة السادس من أكتوبر يتعلم تركيب المكعبات مع زميله المصري.

عار علينا أن تتصدر الصورة الصفحات الأولى لجميع الصحف الأجنبية وتخلوا منها صحفنا ونحن أصحاب المأتم، لا تخافوا وانشروا الصورة فهي ليست مخيفة للجميع وهناك من سيسعد بها، انشروها ليطمئن حكام الخليج أن الربيع العربي الذي أنفقوا المليارات لإفشاله قد فشل، وأن الشعوب صارت تهرب منه إلى الموت، انشروها حتى ينتشي المستبدون ويطمئنوا أن شعوبهم لن تجرؤ مجددا على المطالبة بالحرية والعدل والمساواة، وأنها باتت مخيّرة بين حياة غير كريمة وموت غير كريم، انشروها ليسعد الساعون للسيطرة على أراض جديدة بأن الأراضي باتت خالية من أهلها وأنها جاهزة الآن لاستقبالهم.

انشروها ليرى الجميع حذاء عليان المرفوع في وجوههم، وجسده الزاهد في معاركهم وأطماعهم، وروحه الصاعدة إلى فضاء أفضل لأنه يخلو منهم، انشروها فالجريمة باقية بالصورة وبدونها.

انشروها وإلى جانبها صور حدودنا العربية المغلقة في وجوه اخوتهم، وصورة من الأوراق المطلوبة من سوري يريد دخول مصر، وأخرى لظروف إقامة اللاجئين الحاليين في بلاد العرب، وصورة لإعلامي تافه يطلب بترحيلهم جميعا من بلده.

انشروها وإلى جانبها صور من على رصيف محطة القطار في ألمانيا حيث يقف المئات بزجاجات المياه والعصائر والوجبات الجاهزة في انتظار وصول قطار اللاجئين، ومن مدرجات ملاعب الكرة في أوروبا حيث ترفع الجماهير لافتات ترحيب بالسوريين على أراضيهم، ومن موقع حكومة سويسرا الذي يعلن تخصيص مسكن وراتب شهري لكل لاجئ سوري.

انشروا كل ذلك ليعرف الجميع لماذا خاطرت أسرة عليان بعبور البحر إلى بلاد لا يعرفون لغتها ولا أهلها، بينما كانت حدود الأشقاء إليهم أقرب.

………………………………………..

* نقلا عن موقع “عربي 21”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …