«إشارة رابعة».. قوة الرمز الثورى
العلامة الصفراء ذات الأصابع الأربعة تتحول إلى «كود إنسانى» للحرية ومقاومة الاستبداد
مجزرة الفض تخرج بـ«رابعة» من «جغرافيا المكان».. إلى «رمزية عابرة للقارات»
المسار الثورى نجح فى إبداع رمزيته.. والشعار وصل إلى قلوب أحرار العالم
رفع رئيس الوزراء التركى، رجب طيب أردوغان، فى 17 أغسطس 2013 -بعد ثلاثة أيام من مجازر الفض- علامة النصر بأصابع يده الـ4 فى إشارة إلى ميدان رابعة العدوية، وذلك فى مدينة “بورصة” غرب تركيا، وأكد أن ميدان رابعة العدوية أضحى رمزا لكل الرافضين للانقلاب، الذى أطاح بمحمد مرسى أول رئيس مصرى منتخب فى تاريخ البلاد، فيما رفع الجمهور، الذى حضر اللقاء اللافتات التى كانت معهم، وعليها علامة النصر، التى رفعها أردوغان بيده، لتتحول بذلك علامة النصر إلى التلويح بأربعة أصابع وليس اثنين فقط.
وقال أردوغان إن ميدان “رابعة” نسبة إلى السيدة العابدة رابعة العدوية رمز للتقوى والزهد والورع، وقال هل ستصبح هذه إشارة جديدة للتعبير عن النصر فى العالم الإسلامى بدلا من الإشارة الأخرى، التى تتم بأصبعين؟ وقد صار.
وقد أطلق الشعار لأول مرة أردوغان فى هذا اللقاء الجماهيرى من تصميم الفنانة التركية صالحة إيرين والمهندس التركى جهاد دوليس.
مولد رمز
ولد شعار رابعة عقب مجازر فض اعتصامى رابعة بميدان رابعة العدوية بالقاهرة ومجزرة فض اعتصام النهضة بميدان النهضة بالجيزة، يوم 14 أغسطس حيث سقط عدد كبير من الشهداء، خاصة بفض رابعة الذى كان أكبر عددا واتساعا، وتم الفض من قبل قوات أمن السيسي من الجيش والشرطة منذ صباح يوم 14 أغسطس وحتى المساء، وخلف الفض الذى وصف بأنه إبادة جماعية وجريمة قتل جماعى لسلطة الانقلاب غير مسبوقة بالتاريخ المصرى آلاف الشهداء والمصابين.
وأعلنت المستشفى الميدانى برابعة يومها أن شهداء الاعتصام يتجاوز عددهم المبدئي 2600 شهيد وآلاف المصابين، وأعقب ذلك حرق الجثث وكسحها بالجرافات وحرق الجثث والمصابين أحياء وحرق مسجد رابعة وحرق جميع الخيام واستهداف جميع الموجودين بالقتل فى الرأس والصدر بمشاركة قناصة لم ترحم طفلا ولا شيخا ولا امرأة!
وبدا ميدان “رابعة” بعد الفض كتلة نار ملتهبة وخيما وجثثا متفحمة، وكان هذا المشهد النهائى هو المراد ترسيخه فى ذهنية رافضى السيسي وفقا لاستراتيجية “الصدمة والرعب” التى اتبعتها سلطة العسكر منذ 3 يوليو، وهى إسالة أكبر قدر من الدماء والقتل لإنتاج حالة من الردع وإعادة لصناعة جدار الخوف الذى كسره المصريون بعد ثورة 25 يناير، وظن السيسي أنه بانتهاء يوم مجازر الفض الذى شهد مجازر مماثلة فى شارع امتداد رمسيس قرابة ميدان رابعة، وفى النهضة والمهندسين، أن الناس ستخرس أصواتها وتقبع بمنازلها بعد إعلان عودة الدولة البوليسية بأبشع صورها، خاصة أن اعتصامات بالأقاليم تعرضت للقمع ذاته والقتل الجماعى، ولكن الأنظار كانت مركزة على “الاعتصام المركزي”.
وكانت المفاجأة هى التى لخصها شعار “رابعة مش فى مدينة نصر.. رابعة فى كل شوارع مصر”، فصارت رابعة التى خسف الانقلاب بها الأرض فى ساعات معدودة وحولوها لأكبر عملية تصفية دموية انتشرت قضيتها وحلمها فى كل ربوع مصر، بل وكل ربوع العالم، وخرجت القضية الإنسانية التى حملتها رابعة من مطالبة بكسر الانقلاب وعودة الحرية والديمقراطية من حيزها الجغرافى الذى دمره الانقلاب إلى ساحات أوسع تمددت عبر جغرافيا الغضب وعبر الزمان والمكان، وانتشرت القضية التى محلها القلب والعقل والوجدان فى القرى والنجوع والأحياء وللصعيد والدلتا وسيناء وفوجئ الانقلاب بأن مجازر الفض أماتت أرواحا بريئة وولدت شرائح جديدة ومتنوعة متضامنة مع قضية شهداء كل همهم حرية وطنهم وبناء دولة مدنية ديمقراطية حقيقية.
وتضامن مع رابعة أحرار العالم والرافضون للمجازر الدموية، وصارت رمزا إنسانيا عالميا يتواصل الأحرار به ومن خلاله، وعلى غير المتوقع نزل الناس فى حراك شعبى يومى تلهمهم رابعة رمز صمود شهدائها يوميا، ولم يتوقفوا عن التظاهر السلمى يوما واحدا، واتسعت دوائرهم مما أربك حسابات الانقلابيين، وعلموا حينها أن رافضى الانقلاب لم تكسرهم صدمة المذابح الجماعية واستطاعوا امتصاص الصدمة، فى ملحمة صمود أسطورية.
كود إنسانى أخلاقي
تحول شعار رابعة إلى رمز أخلاقى وقيمى وليس فقط للتذكرة بالشهداء وتضحياتهم، فمن يؤمن بالحرية وحقوق الإنسان يرفعه، ومن يرفض الاستبداد وعسكرة الدولة يرفعه، وبالفعل أصبح الشعار لغة للتواصل بين شرائح تؤمن بنفس القيم، أصبح شعارا يرمز للكرامة ضد الذل والتحرر، ضد استبداد السلطة العسكرية وللتمدن، ضد أدعياء المدنية، صار رمز رابعة ملاذا وسندا ورفيقا، يستلهمه المؤمنون به فى أفراحهم وفى أحزانهم وفى انتصاراتهم، ورمزا للتثبيت فى الشدائد، حين يشتد الكرب نهتف رابعة وحين نفرح نهتف رابعة، وصارت جزءا من القاموس الحياتى للمؤمن به يحمله على قميصه ويحمله فى لافتة وعلى سيارته وبدبوس على ملبسه وبكراسة أوراقه ومسطرته، وعلى بروفايل صفحته على موقع التواصل الاجتماعى.
وما كان يدرى النظام الدموى أن مجزرة رابعة ستكون سببا فى انتشار واتساع المؤمنين بالقضية، وصار شعار رابعة يطاردهم ويقض مضاجعهم، فشددوا القمع والتنكيل لكل من يحمله بأى مكان، وبلغ الأمر أقصاه باعتقال طلاب وأطفال بالمدارس والجامعات والشوارع ونساء بتهمة “حيازة شعار رابعة”.. وزادهم صمودا وظلوا يحملونه وهم يعلمون أنهم عرضة لفقد حياتهم أو وظيفتهم أو الفصل أو الإيذاء، وهناك نماذج عديدة تكشف رعب الانقلابيين من قوة الشعار الملهم الذى رفعه الصغار والكبار، مثل إيقاف نجوم الرياضة الذين رفعوا الشعار، فضلا عن آلاف القضايا السياسية التى تم تلفيقها للمناضلين المطالبين بالحرية، والتهمة الجاهزة: رفع وحيازة شعار رابعة!
بل وصلت حالة “الهلاوس المرضية” بمؤيدى السيسي إلى رفع دعوى جنائية تطالب بحظر شعار رابعة، وتجريم حيازته أو رسمه أو حمله أو التلويح به، حتى صدرت الأوامر بتغيير اسم الميدان إلى المستشار هشام بركات النائب العام المقتول، غير أن أحد لا يذكر أن ميدان التحرير أطلق عليهم اسم السادات وميدان رمسيس عمل مبارك على تغيير ملامحه ليدين بالولاء للمخلوع وغيرها من الميدان والشوارع وحتى الحواري التى تدخلت يد العسكر لتبديل ملامحها إلا أنها بقيت خالدة فى وجدان الشعب ليرحل العسكر ويبقي الميدان والرمز.
وكان المناضل الثائر د. محمد البلتاجى قد كتب –قبل اعتقاله-: “ميدان رابعة.. حاولوا التقليل من شأنه وعندما فشلوا قاموا بتشويهه إعلاميا وحصاره والتعتيم عليه، لأنهم كانوا يعلمون مدى تأثيره على الأحداث، ثم قاموا بفض الاعتصام بالقوة يوم الأربعاء الدامى ظنا منهم أن هذا سيخمد صوت الحق، إلا أن ميدان رابعة أصبح أشهر ميدان بالعالم، وأصبح اسمه الأكثر تداولا فى العالم لما فيه من بطولات وصمود”.
وبات الشعار ملهما لكل من رفض الانقلاب العسكرى على إرادته فى مصر، وتهافت الثوار على إنتاج أدوات تتلاءم مع شعبية الشعار؛ مثل الدبابيس والكوفيات والشالات والأكواب والتيشيرتات؛ فأشهر مواقع البيع من خلال شبكة الإنترنت أصبح من السهل جدا شراء مثل هذه المنتجات منها، ليس فى مصر فحسب؛ بل فى كل دول العالم، وهذا النجاح غير المسبوق للشعار دفع السلطات الانقلابية لمنع أى منتج يرفعه، بل اعتقال حائزه.
وفى 17 نوفمبر 2013 اعتبرت مجلة “ذا أتلانتك” الأمريكية شعار “رابعة العدوية” من أبرز الشعارات على المستوى العالمى وليس فى مصر فقط، بعدما تحول لعلامة دالة على الصمود والنصر عند الكثيرين.
ووصف الدكتور يوسف القرضاوى -رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين- شعار رابعة بـ”الشعار العالمى ورمز المكافحين” فى تغريدة له على موقع التدوينات القصيرة “تويتر” بقوله: “رابعة أصبحت شعارًا عالميًّا يعتز به الناس فى أنحاء العالم، رمزًا للمكافحين الذين يقفون فى وجه الظالمين المتجبرين”.
قوة الرمز الثورى
وحول رمزية الشعار وقيمته يرى د. حسام عقل -رئيس المكتب السياسى لحزب البديل الحضاري- أنه لا جدال أن لكل ثورة رمزيتها التى تستمر حتى وإن أخفقت هذه الثورات فى بعض المراحل أو المسارات، وعندما نراجع التاريخ نجد على سبيل المثال لا الحصر أن “تشى جيفارا” لم تنجح ثورته أو ارتطم فعله الثورى فى كثير من المراحل والأحيان بالإخفاق، وتكالبت على “جيفارا” الإخفاقات والانتكاسات والأمراض حتى انتهت حياته دون أن يحصل الثمار التى كان يرتجيها، لكن رمزية جيفارا استمرت فى صورة ملصقات توضع على التيشيرتات والسيارات وداخل القاعات، وهنا فإننا بإزاء ما يسمى “رمزية المسار الثوري” المستمرة، وما حدث مع صورة جيفارا التى علقت داخل كثير من البيوت والسيارات وعلى الملابس، قد حدث فى تقديره الخاص بقياس مماثل مع رمزية الأصابع الأربعة واللون الأصفر.
وقد توهم النظام الديكتاتورى تحت ضغط الاستشارات الأمنية الحمقاء ضيقة الأفق أن إعمال آلة القتل واستخدام استراتيجية الرعب للصدمة النفسية عن طريق حرق الجثث وسحلها فى الشوارع سوف تنهى الاحتجاج الشعبى وتضع حدا له، ونسيت هذه الثلة من المستشارين الأمنيين ضيقى الأفق أن رمزية المسار الثورى مستمرة، وأن الثوار سيبدعون رمزا يبقى يتجمعون حوله ويحتشدون خلفه ويمارسون الفعل الثورى من خلاله.
رمزية الشعار تمثل فكرة قيادة الثورة واستمرارها، ومن ثم كان لا بد من محاولة تغييب الشعار لقطع رأس القيادة الرمزية والانقضاض على الاستمرارية والتواصل الثورى، وقد بلغ الرعب والهلع الأمنى بالنظام الهش أن يفزع من شعار على “مسطرة تلميذ” أو “بالونة”.. ويدفع قوى المظلات والصاعقة ليطارد الفتيات بالشوارع والحرم الجامعى لأنهن يحملن هذا الشعار، مما يؤكد أن النظام الانقلابى المترنح يعيش أسوأ أيامه.
عابر للقارات
وقد كان هو رمز رابعة أصابع أربعة ولونا أصفر ودون الترتيب مع أى شركات دعائية أو تسويق على نحو ما صنع النظام العسكري حين حاول تسويق نفسه بالتعاون مع شركة “جلوفر بارك” لتحويل الدماء التى أراقها إلى بطولات، وتحويل عملية القرصنة السياسية على الاستحقاقات الديمقراطية إلى منجزات، فإن الثوار-دون حاجة لإنفاق المليارات على أى شركات تسويقية فى أمريكا أو غيرها- قد أبدعوا رمزيتهم التى نجحت فى اختراق كل الآفاق والأخطار والبلاد، فرأينا رمز الكف للأصابع الأربعة فى أوروبا وأسيا والخليج وإفريقيا، بل رأينا مطعما فى مانشيستر فى إنجلترا يضع الشعار على لافتة، ورأينا المتجمعين المحتشدين فى بون وفيينا وباريس وفى واشنطن يحملون هذا الشعار على الملابس أو اللافتات أو على دبوس صغير يوضع فى الثياب، ما يؤكد أن المسار الثورى نجح فى إبداع رمزيته على نحو أذهل الانقلابيين، وفضلا عن هذه الرمزية فإن صمود “مرسي” بقاعات المحاكمة أضاف للنبض الثورى وقودا مضاعفا.
وتكفل استبداد الانقلاب بإتمام المهمة حين غدر بالكتل المتحالفة معه والرفاق ومعظمهم من شرائح الليبراليين وكتلة هائلة من اليسار، وعدد من شباب الثورة، وقفز بعضهم من السفينة، وأصبح الجنرالات وحدهم فى مواجهة محيط شعبى رافض ومحيط عالمى مستاء ومتقزز.
وبعد مرور 24 شهرا سيستمر نفس الاحتجاج الشعبى ويمتد أفقيا ورأسيا ويستمر الرفض الدولى، وتستمر ورطة نظام فاشي لسباحتهم فى حمامات الدم دون أن تلوح بارقة أمل أو حلحلة للأزمة، وهو ما يؤكد غباء التقديرات والحسابات منذ البداية، ونعود فنقول بعد احتجاز واعتقال قيادات الصفوف الأولى والثانية والثالثة من التيارات الإسلامية -وخصوصا الإخوان المسلمين- فإن المسار الثورى الحالى فى موجته الثانية الضخمة لم يعد متجمعا حول فرد أو محتشدا حول شخص يقوده.
إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟
ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …