‫الرئيسية‬ مقالات مدرستي لا تحرق الكتب..
مقالات - أبريل 14, 2015

مدرستي لا تحرق الكتب..

“أما المركز الثاني في المسابقة، فقد فاز به الطالب البراء أشرف جابر من خامسة ابتدائي.. فين براء؟.. فين براء؟.. إجري.. إجري يا براء”.
وهكذا، جريت بسرعة، أمام أكثر من ألف تلميذ، أقطع حوش المدرسة الواسع، للوصول إلى منصة الإذاعة المدرسية، في السابعة والنصف صباحاً، للحصول على جائزتي، في مسابقة أفضل بحث عن حرب أكتوبر ١٩٧٣، وبطولات الجيش المصري بها.
أذكر هذه اللحظات جيداً.. فرحتي بالجري أمام الطلاب كلهم، تلك كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسمي عبر مكبر صوت.. لا زلت أحفظ حوش مدرستي. هنا جريت، وهناك أحرزت هدفي الأول (وربما الوحيد) في مباراة كرة قدم خلال حصة ألعاب.. وهنا، أيضاً، سيقف زملائي الطلاب الذين يصفقون بقوة الآن لحصولي على جائزة، في السنوات التالية، يستمعون إلى صوتي بينما أقدم الإذاعة المدرسية مرتين في الأسبوع..
حوش مدرستي واسع جداً، يلائم الجري، وممارسة الرياضة، بل ومخيمات الكشافة أيضاَ، التي يشارك بها طلبة الصفوف الإعدادية فقط.
هذا حوش مدرستي، “فضل الحديثة”.. الذي تم استخدامه الأسبوع الماضي لحرق كتب مخالفة بقرار من وزارة التربية والتعليم!.
(٢)
العائلة اسمها “فضل”. وقبل مولدي بسنوات طويلة كانت لديها مدرسة خاصة في شارع جانبي بحي “الطالبية” في الهرم، وللصدفة وحدها، فقد ولدت في ذات الشارع، كما أخبرني أبي لاحقاً.
صادفت طفولتي رغبة “محمد فضل”، الأخ الأكبر في العائلة، أن يؤسس مدرسة جديدة تحمل اسم عائلته، فقد كانت العمارات الصغيرة تحاصر مدرسة “فضل الخاصة” بالطالبية. وتجعل من حوشها مكاناً لا يصلح للعب والفسحة..
وقع اختياره على قطعة أرض واسعة في شارع فيصل، وفيها تم بناء “فضل الحديثة”. وبحسب ما يقول أبي، فقد تم افتتاح المدرسة في نفس عام مولدي، وكنت لاحقاً، من الأطفال الذين انضموا للدراسة بها.
قضيت في فضل الحديثة ١٠ سنوات كاملة، عامين في روضة الأطفال، وخمسة في سنوات الدارسة الإبتدائية، وثلاثة أعوام في الإعدادي، قد بكيت بحرقة وأنا أنتقل لاستكمال دراستي الثانوية في مدرسة أخرى، لأن “فضل” لا تحتوي قسماً للدراسة الثانوية للبنين.
أشقائي الصغار، حتى الآن، يستكملون دراستهم في ذات المدرسة، تقريباً معظم أطفال عائلتي كذلك، الأمر تحول إلى نكتة، تقول أن عائلتي أكبر مصدر للأطفال للدراسة في فضل الحديثة.
وحتى الآن، تخبرني شقيقاتي الصغيرات، بتحيات وسلامات أساتذتي السابقين التي يرسلونها معهن، للأخ الأكبر، الذي طالما تنبأوا له بمستقبل ما في عالم الصحافة والإعلام.. حتى إن أحدهم لمح فيه موهبة، فجعله يقدم الإذاعة المدرسية بعد أن فاز في مسابقة بحث عن حرب أكتوبر.
(٣)
في مكتبة المدرسة، قضيت ساعات طويلة، بين عدد لا نهائي من الكتب عن تاريخ مصر القديم والحديث، وأعددت بحثي، الذي ساعدني أبي في نقله إلى ورق أبيض كبير، في محاولة للتغلب على سوء خطي، وهو أمر لايزال يلازمني حتى الآن، ولم تفلح معه جهود مدرس العربي في فضل الحديثة.
في المكتبة ذاتها، قرأت كتب أنيس منصور لأول مرة، وحفظت أبيات من شعر أحمد شوقي، هناك وجدت دواوين أعماله الكاملة وقد كان أستاذ مصطفى، مدرس التاريخ، يواجه أسئلتنا عن حكايات الحروب والانتصارات المصرية، من خارج المنهج الدراسي، بقوله : “اذهبوا إلى المكتبة، واحصلوا على المعلومات بأنفسكم”..
كنا نحب حكايات أستاذ التاريخ، ولاحقاً، أحببنا الحكايات التي نحصل عليها من كتب المكتبة.
مدرستي، رغم كونها خاصة، وليست ذات مصاريف دراسية خيالية، كانت في نظري مدرسة كاملة. فيها كل شيء. معمل علوم يعمل بكفاءة، غرفة للكمبيوتر، مسرح ومكتبة، غرفة موسيقى. بل وعيادة.. نعم، مدرستي فيها عيادة طبية تعمل طوال وقت الدراسة لأي حالات طارئة للطلاب.
(٤)
الآن، كتب مكتبة مدرستي يتم حرقها!. بقرار من وزارة التربية والتعليم؛ لأن بعضها يخالف ما تعتقده الدولة والنظام السياسي الحالي!.
دخلت مدرستي في عصر مبارك، وتخرجت فيها في عصر مبارك وكانت صورة مبارك موجودة في المدرسة أعلى السبورة. هكذا كانت مدارسنا كلها. شعرت بالفخر في عامي الأخير، حين سمح لي مدرس الألعاب بتحية العلم. كان علم مصر في “فضل الحديثة” نظيف تماماً، ناعم وبألوان لامعة.. لمست علم مصر للمرة للأولى في “فضل الحديثة”، وأحببته طالباً في مدرسة تعلمت فيها الغناء صباحاً لمصر.. “أحسب عمر النور في الدنيا، يطلع عمر النيل”..
وقد شاهدت صغيراً، محمد فضل، مدير المدرسة ومؤسسها، يأمر بتبديل علم مصر بواحد جديد، لأن العلم الحالي ألوانه بهتت بفعل الشمس والمطر. تعلمت احترام العلم، واحترام العلم. العلم يرفرف طوال النهار على سارية عالية بالحوش الواسع، والعلم في الفصول والمكتبة.. كما يقول الأساتذة.. لكنهم الآن يحرقون الكتب.
(٥)
الخبر المنشور مفزع. المكتبة الضخمة في مدرستي تفقد كتبها لأن الوزارة غير راضية عن بعض الكتب وسيتم إعدام الكتب المخالفة أمام التلاميذ في الحوش الواسع.
مدرستي لا تحرق الكتب ولا تحتقرها. حوش مدرستي غير مخصص للحرائق. بل للعب، وتحية العلم، والاستعراضات الراقصة في الحفلات الدراسية، وللسوق السنوي، الذي نحضر فيه بعض أغراضنا القديمة لبيعها أو استبدالها مع أغراض الطلاب.
مدرستي عظيمة- وحديثة- كانت بها إدارة ذكية- تساعد على الابتكار- لا دخل لها بالسياسة، ليس لها موقف سياسي أو أيدولوجي.. إنها فقط واحدة من مدارس قليلة مازالت تعتقد أن التربية مهمة كما التعليم.
نار السياسة تحرق مدرستي، نار السياسة تقف ضد عائلة فضل التي اختارت أن تنشغل وتهتم بالعلم والتربية، نار السياسة تحول حوش المدرسة إلى محرقة..

للسادة الحارقين، أرجوكم. لا تحرقوا مدرستي. لا تحرقوا فضل الحديثة
—–

المصدر: المصري اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …