‫الرئيسية‬ مقالات هكذا تحدث الشيخ الغزالي
مقالات - مارس 8, 2015

هكذا تحدث الشيخ الغزالي

-1-

قبل نحو عشرين عاما، رحل عن عالمنا الفاني إلى دار البقاء، شيخنا الجليل الشيخ محمد الغزالي (1335 – 1416هـ 1917 – 1996م) .. رحل في اليوم التاسع من شهر مارس، وهو نفس اليوم الذي رحل فيه رائد اليقظة الإسلامية الحديثة جمال الدين الأفغاني .. الذي تتلمذ عليه الإمام محمد عبده .. الذي تتلمذ عليه الإمام رشيد رضا .. الذي تتلمذ عليه الإمام البنا .. الذي تتلمذ عليه الشيخ الغزالي..

وعندما يتلفت المرء حوله الآن، ويرى الحرب العالمية المعلنة والمستعرة ضد الإسلام وأمته وحضارته، يشعر بالفراغ الذي تركه الشيخ الغزالي في الميدان .. ويتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(1).

لم يكن الشيخ الغزالي مجرد عقل مجتهد ومجدد .. ولا مجرد داعية حامل لهموم الأمة، ومرابط بفروسية على ثغور الإسلام على امتداد خمسين عاما ترك لنا فيها قرابة ستين كتابا وذلك غير المقالات والخطب والمحاضرات والحوارات، التي ستبقى ديوانا للجهاد الفكري في سبيل النهضة والاستنارة والتقدم والتجديد، و”جامعة الفكر الإسلامي” تتربى فيها الأجيال.

لم يكن الشيخ الغزالي كل هذا فقط، وإنما كان – مع ذلك – قلبا نورانيا عاش في سناه عارفوه، الذين أسعدهم الله بالاقتراب منه، والأنس بهذا النور الذي كان يفيض من هذا القلب الكبير..

لقد كان – رحمه الله – يُعرِّفُ الإسلامَ فيقول عنه: “إنه قلب تقي .. وعقل ذكي”!.. ولذلك كان واحدا من أعلام العلماء الذين عملوا على إنقاذ الثقافة الإسلامية من ذلك الفصام المنكر بين العقل والقلب .. ذلك الفصام الذي حوُّل حتى العبادات إلى أشكال جفت فيها الروحانية، وحوُّل القلوب إلى بدع وخرافات، وعندما انتهى الصراع بين الصوفية والفقهاء إلى: فقهاء لا قلوب لهم!.. وصوفية لا عقول لهم!.. فجاءت مدرسة الإحياء والتجديد – التي تربى فيها الشيخ الغزالي، وأصبح من أعلام علمائها – لتعيد الوفاق والاتفاق والتزام التكامل بين “العقول المؤمنة” و”القلوب الواعية” .. فانتصرت – في هذه المدرسة – العقلانية المؤمنة، والمجاهدة الروحية التي تزكي النفوس، وتفجر شلالات النور الإلهي من القلوب!..
لذلك؛ فإن كل الذين قرأوا للشيخ الغزالي، أو سمعوا له، أو سمعوا عنه قد حزنوا لموته .. أما الذين سعدوا وأنسوا بأنوار قلبه إلى جانب ذكاء عقله – وأنا واحد منهم – فإن مصابهم فيه لا تعوضه الكتب ولا الخطب، بل ولا تستطيع التعبير عنه الكلمات!..

في السنوات الأخيرة من حياته كان الأطباء قد نصحوه بالمشي كل يوم مدة من الزمن .. وعندما كنت أسأله عن مدى تنفيذه نصيحة الأطباء، كان يقول لي: كيف يتأتى ذلك؟!.. وكلما خرجت من المنزل أحاطني الناس يسألون ويستفتون!.. كانوا يسألونه في الفقه والفكر .. أما أنا وأسرتي فإن لهفتنا الدائمة – عند لقائه أو الحديث معه في الهاتف – أن نسأله “الدعاء”!.. وكنا نعيش السعادة الغامرة عندما يطمئننا – دائما – أنه يدعوا لنا في الأسحار.

وبسبب ظروفه الصحية – في سنواته الأخيرة – اجتهد أبناؤه – بارك الله فيهم – في إحاطة حياته بنظام يحقق له قدرا من الراحة، ومن تنظيم الوقت، والاقتصاد فيما هو أقل أهمية من النشاط والأسفار .. لكن علاقة “الأنس الروحي والفكري” التي جمعت بيننا جعلته يستجيب – وهو سعيد – لكل ما أطلبه منه .. حتى لقد كان الكثيرون يستعينون بي كي يقبل الدعوات، ويلقي المحاضرات، ويحضر الندوات .. وكان أبناؤه يطمئنون لأسفاره – خارج مصر – عندما يعرفون أني سأكون بصحبته .. وكانت أسعد أوقاتي تلك التي ألازمه فيها، وأعاونه في الغدوات والروحات.

ولقد كان “الغزالي – العالم” منطويا على حكمة تنتظر من يكشف عنها، ويفجرها ويستدعيها .. ولقد كنت أشعر بحماسة للاشتراك معي في الحوارات التلفازية، لأن الأسئلة غير التقليدية والقضايا الجديدة، التي يفتح الله على بها كانت تستدعي من حكمته وثمرات عبقريته الجديد والغزير وغير المألوف في حواراته مع آخرين.

وفي سنوات حياته الأخيرة، أحسست أن الرجل يحمِّلني أمانة، كنت أشفق على نفسي من ثقلها، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يعينني على الوفاء بتبعاتها .. وفي آخر لقاء لي معه بمنزله – وكنا نسجل معا حلقتين لبرنامج “روضة الإسلام” – عندما استأذنته في الانصراف، استبقاني حتى يحضر لي نسخة من كتابه الأخير (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم) .. وكتب عليه الإهداء، الذي حملني فيه الأمانة: “إلى أخي الحبيب الدكتور محمد عمارة داعية الإسلام، وحارس تعاليمه، مع الدعاء. محمد الغزالي”!..

ولقد ظل التواصل بيننا – عبر الهاتف – منتظما، يتكرر عدة مرات كل أسبوع .. حتى علمت أنه قد قبل الدعوة لزيارة “الرياض” لحضور فعاليات المهرجان الوطني للثقافة – بالمملكة العربية السعودية – فاندهشت وأشفقت .. لأننا كنا نخشى على صحته – بسبب فرط حساسيته – من أن يتعرض لاستفزاز أحد من الذين أساءوا به الظن – غفر الله لهم – وهاجموه، وأرصدوا ضده أربعة عشر كتابا مليئة بالافتراءات الجاهلة، بعد صدور كتابه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” (1989م).

وكنا – معشر المقربين منه – قد اتفقنا معه على تجنب مصادر ومواطن هذا الاستفزاز، بل وعدم قراءة ما يكتبه عنه هؤلاء!..

ولم أكن أدري – ولا أحد غير البارئ سبحانه وتعالي – أن لقاءه لربه قد اقترب، وأنه مسافر – في لهفة غير مسبوقة – إلى الأرض المقدسة التي كتب الله أن يلقاه فيها وعليها .. وصدق الله العظيم: “إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [لقمان : 34].

لقد سافرت أنا – حول ذات التاريخ – إلى “الكويت”؛ لمشاركة في ندوة علمية، وهناك سمعت وقرأت نبأ انتقال شيخنا إلى بارئه، ودفنه في مدينة حبيبه وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “بالبقيع” على مقربة من مثوى إمام دار الهجرة مالك بن أنس (93 – 179هـ 712 – 795م)، رضي الله عن الجميع.

لقد كان – قبل وفاته بلحظات – يجلس في قاعة الملك فيصل بالرياض، يتابع الأبحاث والحوارات في ندوة المهرجان الوطني للثقافة .. فلما سمع من على “المنصة” كلاما – في الإسلام – لا يليق ولا يرضاه .. طلب التعليق .. فاستأذنه مدير الجلسة في الانتظار إلى موعد الحوار .. فأخرج من جيبه قلما وورقة، ليدون عناوين دفاعه عن الإسلام .. فوافته المنية في هذا المشهد .. مشهد الرباط والدفاع عن حقائق الإسلام .. ويا له من ختام شاهد على مسيرة هذا الإمام العظيم .. ومبشر بحسن الجزاء والمثوبة – إن شاء الله – عند ربه الكريم.

ولقد عدت من الكويت إلى القاهرة بعد الفراغ من العزاء .. فشاركت في حفل التأبين له بجمعية الشبان المسلمين، ثم ذهبت إلى منزل الشيخ لتأدية واجب العزاء لأسرته .. وهناك – بالصدفة – لقيت سيدة قصت علينا قصة الرؤيا التي رأتها، والتي أخبرت بها شيخنا قبل سفره إلى الرياض بأيام، كانت لهذه السيدة ابنة تمر بحالة صحية حرجة .. وكانت شديدة القلق عليها .. فرأت فيما يرى النائم أنها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك باليد اليمنى للشيخ الغزالي، وسيدنا بلال يمسك بيسراه!! ثم استيقظت السيدة من نومها .. فقصت رؤياها على زوجها .. الذي سأل عن رقم هاتف الشيخ .. فقصت السيدة عليه ما رأت في المنام .. فطمأنها على ابنتها، وقال معلقا على رؤياها: هذه صحبة أحبها وأريدها.. وكان سفره – في لهفة – إلى “الرياض” .. ليلقى ربه .. وليجاور – في مثواه الأخير –رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

لقد كان الشيخ الغزالي رقيق العاطفة .. لكنه كان أسدا هصورا عندما يغضب للإسلام ولحرمات أمة الإسلام .. وكان حادا في تقريعه للغافلين عن مخاطر الحرب “الصليبية – الصهيونية” القائمة ضد الإسلام .. وكان يبكي عشقا لحبيبه وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكان يأسى على الماديين الذين لا قلوب لهم .. ويشفق على كثير من الشيوخ الذين لا عقول لهم، ولقد عاش مرابطا على ثغور الإسلام .. الذي وصفه وصفا دقيقا وجامعا عندما قال عنه: “إنه قلب تقي .. وعقل ذكي” رحمه الله رحمة واسعة.. وعوض أمتنا عنه خيرا.. إنه – سبحانه – أكرم مسئول، وأفضل مجيب.

-2-
كان الشيخ الغزالي (1335 – 1416هـ 1917 – 1996م) – رحمه الله – نموذجا فريدا من العلماء المجددين .. كان حاملا لهموم الأمة .. واعيا بأبعاد الحرب المعلنة – تاريخيا – ضد الإسلام وأمته وحضارته .. مدركا لخطر الأمراض الداخلية التي تفترس الأمة، والتي يحرسها الغرب الاستعماري، لتظل أمتنا في حالة “الرجل المريض” الذي يفترس الصليبيون والصهاينة تركته ويقطعون أوصاله.. ومبصرا لمخاطر أمراض القلوب، التي تفوق أمراض الواقع المادي!..
وبقدر ما كان هاشا باشا مع الجماهير المطحونة، حتى ليقول: “لو كنت ملكا لأبيت إلا الانتظام في سلك الأخوة المطلقة مع الجماهير الدنيا، أخدمهم ويخدمونني على السواء”!..

كان واعيا بجريمة “النخبة” التي أفسد الاستعمار عقولها، وحول عن الإسلام قلوبها.. وبخطر المتدينين الذين غرقوا وأغرقوا الناس معهم في الشكليات، حتى لقد فرَّغوا الدين من أعز ما فيه: التقوى، وروح الجهاد!..

وعلى المستوى الفكري، كان الشيخ الغزالي أسدا هصورا مرابطا على ثغور الفكر الإسلامي، حتى لقد مثلت حياته مشروعا فكريا .. ومعركة فكرية امتدت لأكثر من خمسين عاما، لم يترك فيها قضية من قضايا العصر إلا وخاض ميدانها ببسالة ووعي وإخلاص..
ففي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، التي شلت قدرات الأمة وعطلت ملكاتها المادية والمعنوية، خاض أولى معاركه، وأرسى في صرح مشروعه الفكري عددا من اللبنات التي تمثلت في كتبه: (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و (الإسلام والمناهج الاشتراكية) و (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين) و (الإسلام في وجه الزحف الأحمر) .. وفي هذا الميدان قدم فكرا نفيسا، وثوريا .. قال فيه:
“لقد رأيت – بعد تجارب عدة – أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة!.. إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عاريا!.. إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان، ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان .. فلا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين حقا في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقا في هداية الناس لرب العالمين..

إن بعض ذوي الآفاق المغلقة يتوهمون أن إدخال العوامل الاقتصادية في الرذائل والفضائل جنوح إلى التفكير الشيوعي القائم على النظرة المادية المحضة للحياة، واستهانة بالقوى الروحية السامية .. وهذا التوهم خاطئ، فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحي .. بيد أن ذلك لا يعني إغفال المشاهد المحسوس، من تولد الرذائل الخطيرة في المجتمعات المصابة بالعوز والاحتياج، بل إن الاضطراب الاقتصادي في أحوال كثيرة جدا قد يكون السبب الأوحد في نشوء الرذيلة وشيوعها، والحديث النبوي الذي يلمح فيه نبي الإسلام إلى أن المعاصي توقع فيها الضوائق المادية – حديث: “إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب” – يضع أيدينا على طرف الحقيقة التي بدأ الناس يفهمونها الآن كاملة!..

إن بقاء كثير من الناس صرعى الفقر والمسكنة، هو هدف أكثر الحكومات المتتابعة، في العصور السابقة واللاحقة، إذ إن تجويع الجماهير بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام، ومن هنا انتشر الفقر في الشرق، وسخر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته، وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعنى تفسيرا سقيما، نسى الناس معه حقوقهم وحياتهم، وجهلوا دنياهم وأخراهم، وحسبوا الفقر في الدنيا سبيلا إلى الغنى في الآخرة!..

إن هدف الديانات والرسالات هو قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم .. وقيام الناس بالقسط .. – العدل – هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبدا، وقد قال بعض علماء الأصول: إن مصالح الناس المرسلة، لو وقف دون تحقيقها نص أوّل النص، وأمضيت المصالح التي لا بد منها .. وللحكومة – من وجهة النظر الدينية – أن تقترح ما تشاء من الحلول، وأن تبتدع ما تشاء من الأنظمة لضمان هذه المصلحة، وهي مطمئنة إلى أن الدين معها لا عليها، ما دامت تتحرى الحق، وتبتغي العدل، وتنضبط بشرع الله فيما تصدره من اقتراحات وقوانين..

إن المال الذي يكفي لإذهاب الغيلة، واستئصال الحرمان، وإشاعة فضل الله على عباده، يجب إخراجه – مهما عظم – من ثروات الأغنياء، ولو تجاوز تجاوزا بعيدا مقادير الزكاة المفروضة، لأن حفظ الحياة حق إسلامي أصيل، ومقادير الزكاة ليست إلا الحد الأدنى لما يجب إنفاقه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن في المال حقا غير الزكاة”(2)

ومن الواجب:
1 – تأميم المرافق العامة، وجعل الأمة هي المالكة الأولى لموارد الاستغلال، وإقصاء الشركات المحتكرة لخيرات الوطن،أجنبية أو غير أجنبية، وعدم إعطاء أي امتياز فردي من هذا القبيل.

2- تحديد الملكيات الزراعية الكبرى، وتكوين طبقة من صغار الملاك، تؤخذ نواتها من العمال الزراعيين.

3- فرض ضرائب على رءوس الأموال الكبرى، يقصد بها تحديد الملكيات غير الزراعية.

4- استرداد الأملاك التي أخذها من الأجانب، وإعادتها إلى أبناء البلاد، وتحريم تملك الأرض المصرية على الأجانب تحريما مؤبدا.

5- ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التى يعملون بها بحيث تكون لهم أسهم معينة مع أصحابها في الأرباح.

6- فرض ضرائب تصاعدية على التركات، تنفق في وجوه الخير، على النحو الذي أشار به القرآن، إذ يقول: “وإذا حضر القسمة ألو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا” [النساء : 8].

ولو لم يبق لكل فرد من أفراد الشعب إلا قوته الضروري، لما جاز أن تتراجع الدولة في تحقيق هذا البرنامج، الذي تعلن به الحرب على الظلم والجهالة والاستعمار.

هكذا تحدث الشيخ الغزالي.. في أول كتاب ألفه.. وأول معركة فكرية خاضها ضد الظلم الاجتماعي(1947م).. أي قبل ستين عاما.. فسحب بساط الدين من تحت أقدام الظالمين المستغلين.. وبرهن على أن الإسلام هو الحل لمشكلاتنا الاجتماعية.. وليس المبرر للمظالم الاجتماعية، كما يريد الظلمة.. وفقهاء السلاطين!..

وإذا كانت هذه المعركة – ضد المظالم الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي والاستبداد المالي – كانت أولى المعارك الفكرية لشيخنا الغزالي.. فلقد كانت معركته ضد الجمود، والحرفية النصوصية، و”الظاهرية – البدوية” التي تغض من شأن ملكة العقل، فتفل عزم المسلمين في مواجهة التحديات المعاصرة، وتكرس التخلف الموروث.. كانت معركته ضد هذا الجناح من أجنحة التحدي الحضاري الذي يواجه الأمة الإسلامية.. هي آخر معاركه الفكرية الكبرى.. ففي كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث).. ومن قبله في فصول من كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين).. قدم الرجل منهاجا إسلاميا عبقريا في التعامل مع النصوص.. وفي فقه هذه النصوص.. فعنده: “إنه لا فقه بغير سنة، لا سنة بغير فقه.. وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة”.

إن السنة النبوية تواجه هجوما شديدا في هذه الأيام، وهو هجوم خال من العلم ومن الإنصاف.. وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعي الاكتفاء بالقرآن وحده، ولو تم لهذه الجماعات ما تريد، لأضاعت القرآن والسنة جميعا، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله!..

إن محاربة السنة لو قامت على أسس علمية لوجب ألا يدرس التاريخ في بلد ما!.. لماذا يقبل التاريخ – على أنه علم – وتهتم كل أمة به، مع أن طرق الإثبات فيه مساوية أو أقل من طرق الإثبات من الحديث النبوي؟!..

ولماذا تدرس سير العظماء وكلماتهم وتعرض للتأسي والإعجاب، ويحرم من ذلك الحق رسل الله، وفي صدارتهم سيد أولئك الرسل مروءة وشرفا، وبيانا وأدبا، وجهادا وإخلاصا؟!.

إن بعض البله يتصور الأنبياء أبواقا لأمين الوحي، يرددون ما يلقيه إليهم، فإذا انصرف عنهم هبطوا إلى مستوى الدهماء، وخبا نورهم!.. أي غفلة صغيرة في هذا التصور؟!.

إن الله – في كتابه – أحصى أسماء ثمانية عشر نبيا من الهداة الأوائل، ثم قال للهادي الخاتم: “أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين”[الأنعام : 90].

فإذا برز للإنسانية إنسان كامل، التقت في سيرته شمائل النبوة كلها، وتفجرت الحكمة على لسانه كلمات جوامع، واستطاع – وهو الفرد المستوحش – أن يحشد من القوة ما يقمع كبرياء الجبابرة، ويكسر قيود الشعوب، ويوطئ الأكناف للحق المطارد.. إذا يسر الله للإنسانية هذا الإنسان العابد المجاهد الناصح المربي، جاء غرٌّ ليقول: لا نأخذ منه ولا نسمع منه، ثم يستطرد – مخفيا غشه – : حسبنا كتاب الله!..

إن السنة ليست إلا الامتداد لسنا القرآن، والتفسير لمعناه، والتحقيق لأهدافه ووصاياه..
هكذا تحدث الشيخ الغزالي عن أهل الجمود – جمود الغفلة – .. فبدأ بالذين يريدون قطع إحدى ساقي الإسلام .. سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. محذرا من أن دعوة هؤلاء إذا نجحت – لا قدر الله – ستفضي إلى ضياع القرآن والسنة جميعا، لأن القضاء على السنة ذريعة لقضاء على الدين كله!..

ثم تحول شيخنا الجليل – عليه رحمة الله – إلى الجناح الثاني من أهل الغلو في الجمود.. أولئك الذين غاب عنهم الفقه وهم يتعاملون مع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

-3-
بعد أن تصدى شيخنا محمد الغزالي (1335 – 1416هـ 1917-1996م) – عليه رحمة الله – للذين ينكرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخفين غشهم بكلمة: حسبنا كتاب الله!.. عرج بالنقد المنهجي على مواقف نفر من المنتسبين إلى السنة النبوية المطهرة – انتسابا غير واع – فصاغ من خلال نقده لهم منهجا علميا واعيا في التعامل مع النصوص.. وفي هذا السياق قال ضمن ما قال: “على أننا نعتب على جماعات كثيرة تنسب للسنة ، وتظهر التمسك بها، فإن مسلكها قد يكون وراء انصراف بعض الناس عن السنة وشكهم في جدواها، نأخذ على هذه الجماعات أمرين:
أولهما: أنها تخلط الصحيح بالسقيم، ولا تدري بدقة ما يقبل ويرد من المرويات..
ثانيهما: قصورهم الفقهي، فليست لهم قدم راسخة في فقه الكتاب الكريم – مع أنه الأصل – كما أنهم يأخذون الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها، ولا يضمون إليها ما ورد في موضوعها من مرويات أخرى قد تؤيدها وقد تردها.

لقد بذلت في تحقق السنة جهود لم يبذل مثلها في الوقوف على تراث بشر، كي يعرف ما قاله الرسول حقا.. وانتهت هذه الجهود بجملة حقائق محترمة:

1 – إن في السنة ما هو متواتر لفظا ومعنى، وهذا النوع من السنة يشبه القرآن الكريم فيما أتى به من أحكام.

2 – وجمهور الأمة يقبل سنن الآحاد، ويعدها دليلا على الحكم الشرعي الذي نتعبد الله بإقامته، ومن الناس من عد هذه السنن مفيدة لليقين الذي يفيد التواتر – مادامت صحيحة – ولكن جمهور العلماء يقبل سنن الآحاد في الأحكام العلمية والفروع الفقهية، ولا ينقلها إلى ميدان العقيدة، الذي يقوم الأمر فيه على القطع، ومعنى ذلك أن سنن الآحاد تفيد الظن العلمي وحسب.

3 – مع اتفاق الفقهاء على أن سنن الآحاد قرينة مقبولة في إفادة الحكم الشرعي، فإن عددا من الأئمة يتجاوز هذه السنن إذا كانت هناك قرينة أقوى منها في إفادة حكم الله.

فالإمام مالك – مثلا – يرى عمل أهل المدينة أدل على السنة النبوية من حديث الآحاد مهما كانت صحته.

والأحناف يرون أن حديث الآحاد لا ينهض علة إثبات الفرضية وحده، ولا ينهض كذلك على إثبات الحرمة، ولكنه يثبت أحكاما أقل رتبة، وغالى بعضهم فجعل القياس القطعي أرجح من سند الآحاد.

إن الحكم الديني لا يؤخذ من حديث واحد مفصول عن غيره، وإنما يضم الحديث إلى الحديث، ثم تقارن الأحاديث المجموعة بما دل عليه القرآن الكريم، فإن القرآن هو الإطار الذي تعمل الأحاديث في نطاقه لا تتعدوه، ومن زعم أن السنة تقضي على الكتاب، أو تنسخ أحكامه فهو مغرور!.. إن حياة محمد – صلوات الله وسلامه عليه – كانت تطبيقا عمليا لتوجيهات القرآن!.. كانت قرآنا حيا يغير الأرض ويصنع حضارة أخرى، ولولا هذه السنة العلمية والقولية؛ لكان القرآن أشبه بالفلسفات النظرية الثابتة في علم الخيال..

إذن نعتقد – مثل كثير من العلماء المحققين – أن الأحكام التي توجد في الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، بتأييد إلهي، وبيان رباني، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها بشروط ثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الفهم والاستنباط يسمى في اصطلاح القرآن تارة “تبيينا” وتارة “إراءة” قال تعالى:”إنا أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون” [النحل : 44].

وقال جل شأنه:”إنا أنزلنا إليكم الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله” [النساء : 105].

إن دراسة السنة علم له رجاله الخبراء، ولا يقبل في هذا الميدان ما يرسله السفهاء من أحكام طائشة، تجعل التطويح بالسنة النبوية أمرا جائزا، أو تجعل تكذيب حديث ما هوى مطاعا.

ولقد كان الفقهاء – على امتداد تاريخنا العلمي – هم القادة الموثوقون للأمة، الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار، كما تقدم مواد البناء للمهندس الذي يبني الدار، ويرفع الشرفات، والواقع أن كلا الفريقين يحتاج إلى الآخر.. فلا فقه بغير سنة، ولا سنة بغير فقه، وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة.. وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون..”

هكذا تحدث الشيخ الغزالي – عليه رحمة الله – عن المنهاج العلمي في التعامل مع السنة النبوية الشريفة حديثا موزونا بموازين الفقهاء العظام.. فكان هذا التوازن الجامع بين الأصل: القرآن الكريم.. وبين البيان، أي السنة النبوية، التي هي البيان النبوي للبلاغ القرآني..

ومن المعارك الفكرية التي خاضها الشيخ الغزالي، والتي مثلت معالم بارزة في مشروعه الفكري، معركته في مواجهة الاستبدد السياسي، الذي حرم الأمة من ثمرات الشورى الإسلامية، فأعجزها عن مواجهة تبعات رسالتها، ومجابهة تحديات أعدائها، وفي هذا الميدان قدم كتبا عدة منها (الإسلام والاستبداد السياسي) و (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).. وغيرهما من الكتب والدراسات والمقالات التي عالجت قضايا هذا الميدان.

كذلك خاض الشيخ الغزالي المعارك العديدة في مواجهة تحديات الحضارة الغربية التي حاولت وتحاول طمس التميز الحضاري للإسلام، ونسخ هوية أمته، ومسخ الروح الإسلامية المتميزة في علوم حضارتنا ونظمها.. وفي هذا الميدان قدم – رحمه الله – العديد من الأعمال الفكرية، التي مثلت كتائب معاركنا الفكرية ضد التغريب والاستلاب الحضاري.. فكتابه (من هنا نعلم) مواجهة مع محاولات “علمنة الإسلام”؛ ليكون نصرانية، تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله!.. وكتابه (حقيقة القومية العربية) مواجهة للمفاهيم الغربية في القومية، تلك التي استعارها فريق منا، فكانت عدوانا على عالمية الإسلام، وانتقاصا من وحدة الأمة.. وعنصرية ترتد بنا إلى عصبية الجاهلية الأولى!..

أما كتابه (دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين)‘ فإنه نزال مع المستشرق المجري جولد تسيهر (1850 – 1921م) الذي أراد في كتابه (العقيدة والشريعة) تقديم الإسلام كاستعارات ملفقة من عقائد الآخرين وشرائعهم!..

وكذلك تأتي في هذا المقام إسهامات كتب الشيخ الغزالي (الغزو الثقافي يمتد في فراغنا) و (مستقبل الإسلام خارج أرضه وكيف نفكر فيه) وغيرها من الكتب والدراسات.

وفي مواجهة “الذات الإسلامية”، التي تشوهت بالتخلف الموروث، وبالاستلاب التغريبي، قدم الشيخ الغزالي – عليه رحمة الله – العديد من الكتب والدراسات، التي سعت لتجديد “الذات الإسلامية” بالغذاء الإسلامي الصالح الصحيح.. تجديد العقل، وتصفية رؤيته.. وتجديد القلب، وترقيق مشاعره.. وإقامة علاقة التكامل – التي امتاز بها الإسلام – بينهما..
ولقد كان هذا الميدان هو أغنى ميادين المشروع الفكري للشيخ الغزالي بالكتب والدراسات.. فهو ميدان القوة الإسلامية الضاربة، التي يتوقف على صلاحها إحراز النصر الإسلامي على كل الجهات، وفي مواجهة كل التحديات.

فمن: (خلق المسلم) إلى (عقيدة المسلم) و (التعصب والتسامح) و (جدد حياتك) و (في موكب الدعوة) و (فقه السيرة) و (ليس من الإسلام) و (هذا ديننا) و (من معالم الحق) و (كيف نفهم الإسلام) و (نظرات في القرآن) و (كيف نتعامل مع القرآن) و (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم) و (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) و (مع الله – دراسات في الدعوة والدعاة) و (معركة المصحف) و (كفاح الدين) و (الإسلام والطاقات المعطلة) و (الجانب العاطفي من الإسلام) و (سر تأخر العرب والمسلمين).. وغيرها.. وغيرها.. كثير من الكتب والدراسات التي استهدفت تزكية الذات والنفس الإسلامية بالإسلام..

ولقد كان الشيخ الغزالي واعيا بضرورة إصلاح الداخل الإسلامي، والذات الإسلامية، لزيادة المناعة والمنعة الإسلامية ضد الزحف الغربي على الذات الإسلامية.

ومن عباراته الجامعة في هذه القضية قوله: “إن تحديات الدعوة الإسلامية تجيء – قبل أي زحف خارجي – من داخل أرض الإسلام .. على أن التحدي الأعظم للإسلام كله هو يقظة كل القوى المعادية له، وتبييتها النية على اغتياله!..

لقد صحت اليهودية، والنصرانية، والشيوعية، والوثنية، وتملكتها رغبة مجنونة للقضاء على هذا الدين، وانتهاز ما يسود بلاده من غفلة وفرقة لتوجيه الضربة الأخيرة!..

وإن الوعظ هو أخف الواجبات التي يتطلبها الإسلام في عصرنا!.. فالجهد الأول – المطلوب – هو: تحريك قافلة الإسلام، التي توقفت، في وقت تقدم فيه حتى عبيد البقر!..
وسوف تتلاشى هذه التحدات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام، ويدخلون فيه أفواجا، حكاما وشعوبا.

هكذا تحدث الشيخ الغزالي – عليه رحمة الله – وهكذا يجب أن نعي إنجاز هذا الإمام العظيم .. وهكذا يجب أن يكون الاحتفال بذكري العلماء العظماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …