‫الرئيسية‬ مقالات سيدي القاضي..”اسم أمك إيه”؟
مقالات - مارس 5, 2015

سيدي القاضي..”اسم أمك إيه”؟

قد يصل الأمر بك إلى الجنون، فالأنفاس صوتها الفزع، لها ذبذبات تعلو أصوات رفيقات الحبس وضوضاء الأحاديث، لا خيار أمامي سوى أن أصنع من مكان نومي كهفاً، أريدها عزلة مؤقتة. وكتبت على فراشي بقلم حبر “هنا ترقد سماح إبراهيم”، كمحاولة بائسة لاكتشاف نفسي من جديد، بشكل يليق بتلك الصورة التي أرفقت لي بملف جنائي كتب عليه “مسجل خطر”!.

ومضات سريعة، تعرضها الذاكرة وتنتج منها فيلما قصيرا.. كلما أغمضت عيني شاهدته، ذكريات تعاد بذهني بتفاصيلها الحميمة، العفوية منها والجادة، كل من أعرفه يتحدث في أذني بجمل متقطعة سريعة.. أحاديث كدوي نحل تصارع بعضها بعضاً، لا أستطيع إيقافها، مفارقات مضحكة وافتراقات مبكية، أضع يدي على أذني في محاولة لإيقافي عن التفكير بأي شكل، يصرخ داخلي، فأبكي.. وأدعو أن يريحني الله.. وأن يعجل بنهايتي. اقبض روحي الآن.. فالموت راحة قد يتمناها أحدنا يوماً ما ولم يجدها.. أعطنيها يا الله.. هكذا أكرر مرات ومرات.
جلسات هزلية تحدد مصير آلاف.. فتهب الحياة لهؤلاء أو تحكم عليهم بالموت قهراً.. عبارات تنطق فتلدغ بها أعمارنا في انتهاك قانوني فج.

روح غائبة أمام موازين قضائية لمطففين، هنا ستجد الظلم مسكوتاً عنه.. لا استقامة له، فالإنصاف “نفسه” ذهب ليبحث عن جاذبيته المعدومة في تلك البقعة “اللامباركة”.
يا الله أقسم بك عليك أن تلتقط بكاميرات سمائك ذلك المشهد! طالما فشلنا نحن في توثيقه، فأية لذة يجدها هؤلاء السفاحون وهم يقهرون غيرهم بحبس أجسادهم الثائرة لسنوات، وأي فزع يحاصرهم وهم يخافون أن تطمس ملامحهم فلا يعرفونها، وسبب حبسهم “حيازة عقول” لا ترى إصلاحاً إلا بسقوط نظام مستبد.

لك أن تضع نفسك لثوان في قفص الاتهام لترى الموقف بصورته دون تشويش.. باستطاعتي تقريبه إليك.. أنت الآن في محكمة مستأنف الساحل، المنعقدة في محكمة شمال القاهرة في العباسية. صمت مطبق.. وصورة لقاضٍ يوزع نظراته باشمئزاز على قاعة المحكمة، لدرجة تشعرك بأنه سيتقيّأ على وجهك من شدة موقفه العدائي لمن في قفص الاتهام، وبصوت أجش يوجه حديثه لمحامي الدفاع: “بقولكم إيه؟.. قبل ما تبدوا مرافعتكم.. إنتو كلكم على بعض، متهمين ومحامين متساوش عندي حاجة.”

دفاع يقف عاجزا ولسان حاله “هي غمقت كده ليه؟”، وباجتهادات ملتوية يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعبارات تحمل تودداً للنظام، وتارة بامتداح الهيئة الموقرة، وأخرى بالتنصل نيابة عنا من ممارسة رذيلة التظاهر، وأن خروجنا في ذلك اليوم كان محض صدفة بحتة، فالكل في تلك اللحظة كان في الشارع “بيجيب جبنة وزيتون كالاتاتا”.

عليك أن تحبس أنفاسك عن التطاول.. أو تدخل في موجة ضحك هستيري مثلما فعلت، من محاولات الاستخفاف بالعقول، والأكثر غرابة، أن بعض الحيل القانونية ” الكاذبة” قد تصل لغايتها.. فتبرىء معتقلاً وتحبس آخر لسنوات.

كنت أخشى أن يقطع القاضي الجلسة ليسألني ما الذي يضحكني.. لأن إجابتي كانت ستجعلني خلف القضبان أعواماً.. وأنا أساله عن أسماء أمهات الهيئة الموقرة، وماذا اقترفن ليبلونا الله بهم في أرضه، لا شيء مؤلم كالظلم، ولا يوجد ذنب يعجل الله عذابه في الدنيا كالظلم.

إفاقة إنسانية

بجانب سريري وقفت الحاجة نعيمة (65 عاماً)، إحدى المعتقلات معنا في الزانزنة، وهي تمسك بصورة حفيدتها حور، المولودة ابنة اليومين، وترفعها بأعلى يديها، لتكسر ألواح الصمت التي جمدت مشاعرنا لأسابيع “يا بنات صورة حفيدتي حور”. ولم نشعر إلا ونحن نحيط بها في حلقات مرددات “حالقاتك.. برجالاتك.. حلقة دهب في ودناتك، يا رب يا ربنا يكبر ويبقى أدنا”.
ظلت تقبل الصورة وتحضنها، وهي تحاول حبس أنفاسها المتقطعة من البكاء، وتستمع لتعلقيات من حولها “إيه الجمال ده يا حاجة عينها خضرا زيك! هنعلق ورق نكتب فيها “بورك لكم في الموهوب وبلغ أشده ورزقتم بره.. الزيارة الجاية قولي لابنك عاوزين رز بلبن”.
وعلى الفور بادرت إحداهن بتلقائية أنثى “عاوزين نعرف بعض أكثر، متحكلينا ياحاجة عن مغامراتك..” زاد وجهها تهللاً، مردفة “أنا اتجوزت صغيرة، جبت 3 عيال، كنت لسه في أواخر العشرينات وجوزي مات، ومرضتش اتجوز.. فضلت أربي.”.

فتهدأ الأصوات وهي تروي بشغف.. فمن قسمات وجهها المبتسم المشع بالنور قد تكتفي، فلا تهتم بمعرفة التفاصيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …