‫الرئيسية‬ مقالات ملوخية الجيل الرابع
مقالات - مارس 2, 2015

ملوخية الجيل الرابع

ليست “الماناخوليا”. إنها الملوخية، أكلة مصرية شهيرة وجدت طريقها إلى العالمية، على الرغم من محاولات مبكرة لوأدها بالتحريم من حاكم مصر الفاطمي في القرن العاشر الميلادي، الحاكم بأمر الله. قاومت “حروب ما قبل الجيل الأول” عليها، فاختفى الحاكم بأمر الله، وبقيت تفتح الإقليم، بل والعالم غرباً وشرقاً.

لها طرق مختلفة في الطبخ والتحضير، وترتبط عند الموسرين في “بلد المنشأ” بالأرانب، فوائدها الصحية والطبية لا تحصى كما يقول خبراء التغذية، والعالمون بما تقطع الأسنان وتهضم الأمعاء والبطون. وعلى الرغم من مزاياها الحصرية، باتت كلمة الملوخية مادة لسخريةٍ لا تستحقها، فيما علاقتها بالحكم والحاكم في مصر قديمة ومتجددة، فقد كتب رئيس تحرير صحيفة مصرية في عهد حسني مبارك يمدحه بأنه يحمل هموم المصريين “إلى درجة أنه محروم من طشّة الملوخية”، قاصداً بذلك سماع صوت إعدادها في المرحلة النهائية للطبخ. وتذرع مبارك نفسه بـ “الملوخية”، حين اقترح عليه بعضهم، في مطلع الثمانينيات، الاستعانة بالكاتب الأشهر، محمد حسنين هيكل، كما سلفاه جمال عبد الناصر وأنور السادات في بعض سنين، فرفض بشدة، معنفاً أصحاب الاقتراح: هل تريدونني أن أسلمه رأسي يطبخ فيها ملوخية؟

نجا مبارك برأسه من هيكل وملوخيته، لكن الأقدار ادّخرت لها رأس الجنرال السيسي التي هرولت، لاحقاً، إلى ملوخية هيكل، لتفرز منذ 30 يونيو/حزيران 2013 طبخة بائسة سامة مميتة، دموية اللون عطنة الرائحة، حتى تردّد أن الطباخ ترك القدر، دونما توضيح السبب، فهل العيب في الطبخة أم الطباخ العجوز، أم في القدر أم في الاثنين أم في الجميع؟

مثل هذه الطبخات في عهدي عبد الناصر والسادات كانت حدثاً مهماً يتحدث به الركبان، وتطبق شهرتها الآفاق، وتفرض نفسها مفردات جديدة في القاموس السياسي والتاريخ، ففي طبعتها الناصرية كانت شهية، وبليغة، وفريدة، وجذّابة حتى في زمن الهزيمة عام 1967 التي نحت لها اسم “النكسة”، ويكفيها في مرحلتها الساداتية سيناريو “ثورة التصحيح” الذي أعده الطباخ للسادات ليخلصه من “مراكز القوى” عام 1971.

وجد الطباخ العجوز أن مهاراته لا تنفع مع قدر الجنرال، وغاية ما أفرزته أداءً مسرحياً سخيفاً باهتاً وغير مقنع، على الرغم من “التلقين” المكثف، وبدا أن الوصفات القديمة التي طالما أتقنها لم تعد صالحة للتكرار، فالزمن غير الزمن، والناس غير الناس، وخريطة القوى في العالم في الألفية الثالثة تختلف عمّا كانت عليه في النصف الثاني من القرن الماضي، لن يسوّقها وضع الجنرال صورة عبد الناصر إلى جواره، أو محاولة تصوير روسيا وبوتين على أنهما الاتحاد السوفييتي وخروتشوف.

زهد الطباخ في قدر الجنرال، ونأى عنه، فشدّوا أذنه عقاباً، فذهب الجنرال حاملاً قدره إلى مهرجي “السيرك الإعلامي” حوله، باحثاً عن طبخة جديدة، لعلها تعوّض الفراغ، يثبت بها صلاحية قدره، فراق له تعبيرٌ زينوه له “حروب الجيل الرابع”، فأخذ يلوكه مطنطناً به، غير مدرك السياق الذي جاء فيه، أو حجية الاستشهاد، أو فساد القياس، أو كونه عصي الفهم على الجمهور، على الرغم من محاولاتٍ مكثفةٍ لإشاعة جو من الاستهواء الجماعي لقبول ما يصدر عن الجنرال وقدره.

والصابرون في أرض الصبر، يرون أن “رابعة” الحروب شيء لا يختلف كثيراً عن “الدراجة” التي بشّر بها الجنرال لحل أزمة المواصلات، ثم لم يعد يسمع بها أحد، أو سيارات بيع الخضراوات للقضاء على البطالة، أو لمبة النور الموفرة، لإنهاء أزمة انقطاع الكهرباء.

عقلية الدراجة وعربة الخضار ولمبة التوفير هي نفسها التي أفرزت جهاز “الكفتة” الشهير لصاحبه الجنرال عبد العاطي، الذي جاءت البشارة به محفوفة بالبزات العسكرية والنياشين والأوسمة، وعلقت آمال آلافٍ من مرضى الكبد عليه، خصوصاً عندما سمعوا من يقول لهم إن عيني السيسي فاضت بالدمع “فرحاً” بهذا الإنجاز العلمي في حينه، لكنه لحق بالدراجة، ولمبة التوفير، وسيارات الخضار.

عاف الناس الطبخة، كفتة كانت أم ملوخية، وسئموا القدر وصاحبها وطبخاته، مفضلين الصبر على الجوع، ومترحمين على “ملوخية الجيلين الأول والثاني وحتى الثالث”، مؤكدين أنهم لن يقبلوا “ملوخية الجيل الرابع”.

———
نقلاً عن (العربي الجديد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …