‫الرئيسية‬ مقالات الحرب على الحقيقة.. كيف تحوَّلت وسائل الإعلام إلى منصات للدعاية؟
مقالات - ديسمبر 17, 2014

الحرب على الحقيقة.. كيف تحوَّلت وسائل الإعلام إلى منصات للدعاية؟

ترجمة: علاء البشبيشي

محاضرةٌ ألقاها الصحفي الإسترالي جون بيلجرJohn Pilger، لتفكيك ظاهرة تَحَوُّل وسائل الإعلام إلى مكاتب دعاية وإعلان، خلال ندوة نظمها مركز الصحافة الاستقصائية Centre for Investigative Journalism CIJ في لندن ما بين 5 إلى 7 ديسمبر 2014، نستعرض أبرز ما تناولته في السطور التالية:

لماذا استسلمت وسائل الإعلام للدعاية؟ ولماذا أصبحت الرقابة والتحريف هما معيار الممارسة الإعلامية؟ ولماذا تحوَّلت الـ”بي بي سي” إلى مجرد بوق للسلطة الجشعة في كثير من الأحيان؟ ولماذا تخدع النيويورك تايمز والواشنطن بوست قراءهما؟.

بل لماذا لا يتعلم شباب الصحفيين كيف يفككون شفرة أجندات وسائل الإعلام، ويَتَحَدُّون موضوعيةً وهميةً؛ يُناطِح ضجيجها السحاب، بينما تكاد أغراضها تلامس التراب؟ ولماذا لا نتعلَّم نحن أيضًا أن جوهر كثير مما يسمى وسائل إعلام ليست المعلومة بل السلطة؛ تدور معها حيث دارت؟.

أسئلةٌ مُلِحَّة، في عالَمٍ يُواجه شبح حربٍ كبرى، ربما تكون بنكهةٍ نووية، في ظل إصرار الولايات المتحدة على عزل واستفزاز روسيا، ثم الصين في نهاية المطاف، وقلب الحقيقة رأسًا على عقب، وإدارتها ظهرًا لبطن، بأقلام الصحفيين الذين روَّج بعضهم أكاذيب أسفرت عن حمام دمٍ في العراق عام 2003.

إننا نعيش في عصر بالغ الخطورة، تصوراته العامة مشوهة، لدرجة أن الدعاية لم تعد هي “الحكومة الخفية”- كما وصفها إدوارد بيرنيز (مؤسس العلاقات العامة والبروباجاندا، الذي حظي بإعجاب “جوبلز” شخصيًا)- التي تدير الأمور من وراء ستار، بل أصبحت هي الحكومة التي تحكم مباشرة دون خوف من الوقوع في التناقض، وهدفها الرئيس هو الاستحواذ علينا، والسيطرة على إدراكنا للعالم، وقدرتنا على الفرز بين الحقيقة والأكاذيب.

وما عصر المعلومات في الواقع إلا عصر الإعلام، لدرجة أننا أصبحنا اليوم نحارب بالإعلام، ونراقب بالإعلام، ونُشَيطن بالإعلام، وننتقم بالإعلام.. خلطة من الكليشيهات السريالية والافتراضات الخاطئة.

ماذا لو…؟

صوَّرتُ مقابلة في واشنطن عام 2003 مع المحقق الصحفي الأمريكي البارز، تشارلز لويس، وناقشنا غزو العراق قبله ببضعة أشهر. سألته: “ماذا لو تحدَّت وسائل الإعلام، التي تحظى بأكبر قدرٍ من الحرية في العالم، جورج بوش ودونالد رامسفيلد، وشككت في مزاعمهما، بدلًا من بث ما أصبح دعايةً خالصة؟”. فأجاب: “إذا قمنا- نحن الصحفييبن- بعملنا؛ ستكون هناك فرصة جيدة جدًا لعدم الذهاب إلى الحرب”.

كانت إجابته صادمة، بيدَ أن صحفيين مشهورين آخرين أيَّداها، حين سألتُهما هذا السؤال؛ “دان راذر” الذي عمل سابقًا في CBn، كرَّر الإجابة ذاتها، وكذلك فعل ديفيد روز، صحفي الأوبزرفر وأحد كبار الصحفيين والمنتجين في الـBBC .

بعبارة أخرى: لو قام الصحفيون بعملهم، وطرحوا الدعاية على مائدة الاستجواب والتحقيق بدلًا من تضخيمها، ربما لم تزهق أرواح مئات الآف من الرجال والنساء والأطفال، وربما لم يفر الملايين من منازلهم، وربما لم تشتعل الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، بل ربما لم يولد تنظيم “الدولة” سيئ الذكر أصلًا.

الفيل في الغرفة

لكن حتى الآن، وبرغم خروج ملايين المحتجين إلى الشوارع، لا يزال معظم الجمهور في الدول الغربية لا يعرف الكثير عن ضخامة الجريمة التي ارتكبتها حكوماتنا في العراق. كما أن قليلين فقط هم الذين يعرفون أن الحكومتين الأمريكية والبريطانية أقامتا محرقةً قبل 12 عاما من الغزو؛ عبر حرمان السكان المدنيين في العراق من سبل الحياة.

كان حصارًا من القرون الوسطى، تسبب في وفاة نصف مليون طفل دون الخامسة، بحسب اليونيسيف. وأدى إلى تحوُّل كارني روس، من مسؤولٍ عن فرض هذه العقوبات خلال التسعينيات- لدرجة شهرته داخل أروقة وزارة الخارجية في لندن باسم “السيد، عراق”- إلى كاشفٍ للحقائق، يفضح الآن كيف تمارس الحكومات الخداع، وإلى أي مدى يمكن للصحفيين نشر التضليل عن طيب خاطر.

بل إن أحد ناقلي الأخبار خلال هذه الفترة الصامتة الرهيبة؛ هو دينيس هاليداي، الذي أصبح لاحقًا مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، ومسؤولًا أمميًا كبيرًا في العراق، استقال بدلًا من تنفيذ سياسات وصفها بأنها “إبادة جماعية”، تسببت في قتل أكثر من مليون عراقي.

لكن ما حدث لـ “هاليداي” لاحقًا كانت له دلالته؛ حيث وُجِّهت له سهام النقد والتشهير. لدرجة أن المذيع جيريمي باكسمان صاح في وجهه، خلال برنامج Newsnight علىBBC : “هل تقوم فقط بدور المدافع عن صدام حسين”، وهو ما وصفته الجارديان مؤخرًا بأنها “إحدى اللحظات التي لا تُنسى” لـ باكسمان، الذي وقَّع أواخر الشهر الماضي صفقة كتاب تقدر بمليون جنيه إسترليني.

وصيفات القمع

وبالنظر إلى النتائج، يتضح أن وصيفات القمع أدَّين أدوارهن بشكل جيد. ففي عام 2013، كشف استطلاع رأي أجراه مركز ComRes، أن غالبية الشعب البريطانيّ يعتقد أن عدد القتلى في العراق أقل من 100 ألف، وهو جزءٌ ضئيل جدًا من الحقيقة، ويكشف إلى أي مدى نجحت الدعاية في تنظيف نهر الدم الذي سال من العراق وصولًا إلى لندن.

هذا يقودنا إلى روبرت مردوخ، الذي لا يشك أحد في قوة ما يمتلكه من صحف؛ يبلغ عددها 127 توزع 40 مليون نسخة، إلى جانب شبكة فوكس نيوز. بيدَ أن تأثير إمبراطورية عرَّاب الإعلام “مردوخ” لا يفوق انعكاساتها على بقية وسائل الإعلام.

فالدعاية الأكثر فعالية لا تظهر تحت الشمس، ولا على شبكة فوكس نيوز، بل تحت هالة الليبرالية، ألم ترَ أن النيويورك تايمز حين نشرت مزاعم امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، صدق القراء أدلتها الزائفة؛ لمجرد أنها لم تكن فوكس نيوز، بل النيويورك تايمز.

وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على الواشنطن بوست والجارديان، اللتين لعبتا دورًا حاسمًا في تمهيد قرائهما لقبول حرب باردة جديدة وخطيرة مع روسيًا على خلفية ما حدث في أوكرانيا.

بل يمكن للأخبار إخفاء دول بأكملها. ألم تر أن المملكة العربية السعودية، مصدر التطرف والإرهاب المدعوم غربيًا، لا يكاد اسمها يُذكَر في النشرات إلا عندما ينخفض سعر النفط؟ ومن يسمع عن اليمن، التي عانت من الهجمات الأمريكية بدون طيار طيلة 12 عامًا؟ ومن يهتم بها؟

التغطية الانتقائية

في عام 2009، نشرت جامعة غرب إنجلترا نتائج دراسة تتناول عشر سنوات، من تغطية بي بي سي في فنزويلا، وأظهرت أن ثلاثة فقط، من بين 304 تقريرًا، هي التي أشارت إلى السياسات الإيجابية التي انتهجتها حكومة هوجو تشافيز. لدرجة أن برنامج محو الأمية، الأكبر في تاريخ البشرية، حظي بالكاد بإشارة عابرة. وفي أوروبا والولايات المتحدة، لا يكاد ملايين القراء والمشاهدين يعرفون شيئًا عن التغييرات اللافتة والمحفزة التي طبقتها أمريكا اللاتينية، وكثير منها مستوحى من تجربة تشافيز.

ومثل بي بي سي، اتسمت التقارير الصحفية التي نشرتها الواشطن بوست والجارديان وبقية وسائل الإعلام الغربية المحترمة بسوء النية؛ لدرجة السخرية من تشافيز وهو على فراش الموت. ما جعلني أتساءل: كيف بررت مدارس الصحافة حدوث ذلك؟.

تضليلٌ مغموسٌ في البذاءة

ولماذا أُقنِع ملايين البريطانيين بضرورة العقاب الجماعي المسمى “تقشفًا”؟
في أعقاب الانهيار الاقتصادي عام 2008، انكشف النظام الفاسد. واصطفّت البنوك- لفترة وجيزةٍ- في ثوب المحتال على التزاماتهم- التي خانوها- حيال الجمهور. لكن في غضون بضعة أشهر- وبعيدًا عن النقد الخافت الذي وُجِّه إلى الإفراط في مكافآت الشركات- تغيَّرت الرسالة تمامًا. واختفت صور المصرفيين المذنبين من صحف التابلويد، وبقي “التقشف” عبئًا يثقل كاهل ملايين المواطنين العاديين.

فهل شهدتَ من قبل خفة يدٍ مغموسة في هذا القدر من البذاءة؟

واليوم، يجري تفكيك العديد من العقارات في بريطانيا لتسديد ديون المحتالين، ويقال إن تخفيضات التقشف بلغت 83 مليار جنيه إسترليني، وهو ما يقارب الضريبة التي رفضت هذه البنوك دفعها، إلى جانب شركات مثل أمازون و”نيوز” البريطانية المملوكة لـ مردوخ. إضافة إلى ذلك، تُمنَح البنوك المحتالة إعانة مالية سنوية تقدر بـ 100 مليار جنيه إسترليني على هيئة تأمينات وضمانات مجانية، وهو الرقم الذي بإمكانه تمويل الخدمة الصحية الوطنية بالكامل.

وهكذا يتضح أن الأزمة الاقتصادية ليست سوى دعاية، وأن السياسات المتطرفة هي التي تحكم بريطانيا وأمريكا والكثير من دول أوروبا وكندا وأستراليا الآن. فمن الذي يدافع عن الأغلبية؟ ومن الذي يحكي قصتهم؟ أليست هذه مهمة الصحفيين؟

المخابرات والنخب السياسية الفاسدة

في عام 1977، كشف كارل بيرنشتاين، أحد مفجري فضيحة ووترجيت، أن أكثر من 400 صحفي ومدير يعملون لحساب وكالة المخابرات المركزيةCIA ، من بينهم صحفيون يعملون في النيويورك تايمز والتايمز وشبكات تلفزيونية. وفي عام 1991، كشف صحفي الجارديان ريتشارد نورتون تايلور شيئًا من هذا القبيل في المملكة المتحدة.

لكن لا شيء من هذا ضروي اليوم. وإنني لاأشك في أن أي شخص دفع للواشنطن بوست، والعديد من وسائل الإعلام الأخرى، مقابل اتهام إدوارد سنودن بمساعدة الإرهاب. وأشك في أن أي شخصٍ دفع لأولئك الذين يشوهون بشكل روتيني صورة جوليان أسانج، رغم توافر العديد من المكافآت الأخرى.

ومن الواضح بالنسبة لي أن السبب الرئيس وراء توجيه هذا القدر من الغل والحقد والغيرة ضد أسانج، هو أن ويكيليكس هدمت الواجهة التي كانت النخبة السياسية الفاسدة تختبئ وراءها بدعم من الصحفيين، وفَضَح أسانج المتحكمين في وسائل الإعلام. أصبح الرجل ليس فقط عدوًا، ولكن أيضًا أوزة ذهبية؛ فبينما جنى كثيرون مالًا وفيرًا من الكتب والصفقات الهوليوودية المربحة، حول ويكيليكس ومؤسسها، كانت ويكيليكس تكافح لمجرد البقاء على قيد الحياة.

لم يُذكَر أيًا من ذلك في ستوكهولم يوم 1 ديسمبر، حينما شارك ألان روسبريدجر، رئيس تحرير الجارديان، إدوارد سنودن جائزة نوبل البديلة لحقوق الإنسان. الصادم في هذا الحدث هو غياب الحديث عن أسانج وويكيليكس.. كانا غائبين تمامًا، وكأنهما شبحين.

لم يتحدث أحد عن رائد الإبلاغ عن المخالفات الرقمية، الذي سَلَّم الجارديان أحد أعظم الهدايا في التاريخ. بل لم تُذكَر كلمة واحدة عن أسانج، وفريق ويكيليكس، الذي أنقذ ببراعةٍ إدوارد سنودن في هونغ كونغ، وأوصلوه إلى بر الأمان.. لم ينبس أحد ببنت شفه!.

الصمت الكاذب

وصدق المنشق السوفيتي يفتوشينكو، إذ قال: “يصبح الصمت كذبًا عندما يُستَبدَل بالحقيقة”. إنه هذا النوع من الصمت الذي نحتاج نحن معاشر الصحفيين إلى كسره. نحن بحاجة إلى النظر في المرآة. نحن بحاجة إلى المطالبة بمحاسبة وسائل الإعلام غير الخاضعة للمساءلة، والتي تهدد باندلاع حرب عالمية.

في القرن الـ18، وصف ديزموند بروك الدور الذي تلعبه الصحافة باعتباره “سلطة رابعة”؛ لكننا بحاجة اليوم إلى سلطة خامسة؛ صحافة تراقب الدعاية وتفككها وتواجهها، وتعلم الشباب كيفية الدفاع عن الناس لا السلطة.

نحن بحاجة إلى ما يسميه الروس: بيريسترويكا (إعادة البناء)- أو ما أود تسميته بـ”الصحافة الحقيقية”.

مرت 100 عام على الحرب العالمية الأولى؛ وكوفئ المراسلون على صمتهم وتواطؤهم. لكن حينها، وفي ذروة المذابح، أسرَّ رئيس الوزراء البريطاني خلال النصف الأخير من الحرب العالمية الأولى، ديفيد لويد جورج، إلى محرر مانشستر جارديان سي بي سكوت، قائلًا: “إذا عرف الناس (الحقيقة)؛ ستنتهي الحرب غدًًا. لكنهم بالطبع لا يعرفون، وليس بمقدورهم أن يعرفوا”.

لكن حان الوقت كي يعرفوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …