مقالات - ديسمبر 23, 2018

الرِهان!

ها هو العام يلملم أوراقه ويذهب سريعا مثلما جاء؛ وهذا العام الذي نقصده هو توقيت ميدان الثورة، فقد مرت علينا حتى الآن ثماني سنوات ثورية، مشحونة بالأحداث والأعمال والخطط والفعاليات، ويمكن القول إن سؤالا من أهم الأسئلة يطرح نفسه مع كل ميلاد لعام ثوري جديد، وهو: ما هي الرهانات التي يمكننا أن نعتمد عليها كبداية جديدة لمحطة ثورية أكثر فعالية وأوفر إصابة لأهدافها؟.. والحقيقة أنه بحكم عملي الصحفي ألقيت هذا السؤال على العديد من المحللين وخبراء السياسة والتخطيط، ولكن قناعتي لم تكتمل بالكثير مما أدلوا به من آراء رغم أهيمتها؛ فدائما هناك شيء ما زال مفقودًا أو غائبًا يمكنه أن يكون هو المثقال المضاف في كفة الرجحان.. ولكن يا ترى ما هو؟

فلتكن ثمة رحلة خاطفة عابرة لضفاف الكتب والأفكار نبحث فيها عن هذا الذي هو أكبر ما نعول عليه ونراهن، وذلك بالطبع بعد مشيئة الله تعالى وإرادته..

*****

لن نذهب بعيدا في أعماق التاريخ القديم، بل سنقف هنا وفي القاهرة نفسها، حيث فتح “جمال الدين الأفغاني” بيته أمام كل الراغبين في الأفضل لبلادهم وأوطانهم؛ فأخذ يقرأ عليهم الكتب، ويحثهم على الفهم والتعلم، يحفز في داخلهم المواهب الكامنة، ويشجعهم على قرض الشعر والزجل وكتابة المقالات والأدب والفكر؛ حتى إنه كان يترك لهم الحرية في كتابة ما يقوله هو من أفكار وآراء بألسنتهم وأقلامهم هم وبتوقيعهم أيضا؛ حتى يمتلكوا ناصية من المبادرة على مواجهة الجماهير والتعبير عن الآراء البنّاءة الجديدة.

تُرى، على ماذا راهن “الأفغاني” القادم من بلاد بعيدة؟ إن تلك الجلسة ومن بين أعضاء هذا الفريق الذي شجعه “الأفغاني” واستحثه على الكتابة والتفكير خرج القادة وأهم الشخصيات المؤثرة في ثورتين من تاريخ مصر الحديث، هما الثورة العرابية وثورة 19، فهل يمكننا التقاط طرف من خيط عن حقيقة هذا الرِهان؟

*****

نستمر في رحلتنا شيئًا ما، وهنا نجد لدينا “سن تزو”، أحد أهم واضعي علم الاستراتيجيات الحربية، والتي أخذها عنه الكثير من الأكاديميات الحديثة في الدراسات العسكرية وفي التخطيط والإدارة بشكل عام، يقول في كتابه “فن الحرب”: “القتال والانتصار في جميع المعارك ليس هو قمة المهارة، التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال”.

لتضع نفسك الآن في مكان العدو أو الصديق داخل إطار تلك المعادلة، ففي الحالتين ستفهم أن الانتصار لا يتعلق بلحظة تثبيت الأكتاف للطرف الآخر، وإنما الأهم هو السيطرة على الإرادة بما تعنيه من احتلال وجدان الخصم، بحيث ينظر إلى نفسه نظرة المنهزم، ويراك جيشا كثيفا كثيرا تتجدد قوته ولا يفنى. وبناء على ذلك يكمل “تزو” في تعاليمه فيقول: “الحرب المثالية هي الحرب السريعة، فالحرب الطويلة استنزاف للمنتصر كما هي للخاسر”.

وبالعودة إلى لغة احتلال الوجدان السابقة، يكون الاستنزاف الوجداني هو أهم المعادلات في المعارك التي يطول زمانها، وهو أمر يحدث للأطراف جميعها، وعليه يكون الثبات أو الاتزان الانفعالي العاطفي والفكري هما أدوات الفعالية الأهم.. وإلى هنا هل نستطيع لملمة بقية الخيط؟

*****

يقول “مالك ابن نبي”: تحت عنوان “أنشودة رمزية” في مطلع كتابه “شروط النهضة”: “ستحمل أشعة الصباح الجديد ظل جهدك المبارك، في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك، وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك … بعيدا عن ظلك، ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك في عمق المستقبل، ها هي بعض الأصوات تهتف..الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي، وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين”.

إن “ابن نبي” هنا يغنى لهذا الذي يتغير قبل أن يغّير، لمن يتحرر من داخله حتى يكون جديرا بحرية يستحقها لا عابثا يلهو بها فتحرقه أولا، ثم يبشرنا ختاما أن خطوات السير في الطريق كفيلة بأن توقظ الجميع تباعا حتى وإن بدا غطيطهم العميق، فأغلب هؤلاء النيام لن توقظهم الخطوات المنفصلة المتقطعة، وإنما سيحفزهم للوثوب خطوات دائمة متتابعة موقنة بالوصول وبالطريق، وهكذا فمن الواضح أن خيط الرهان قد بات أكثر جلاء.

إن “الإنسان” صاحب هذا الفكر، وذاك الوجدان، وتلك الإرادة، إنما هو الرهان الأكبر، وعليه بشكل مباشر يضع الخصم مخططاته ويحيك مؤامراته؛ فهو يوقعه في شباك اليأس من جهة، ويشغله بتفاصيل الحياة اليومية اللاهية من جهة أخرى، فإذا هزم “الإنسان” هذا وذاك، وألقى بعباءة القعود والقنوط جانبا يكون بذلك قد أفشل مكائد خصمه، وبدأ في إضافة المثاقيل للميزان.

يقول “روجيه جارودي”، في كتابه “حفارة القبور”: “يكفي أن نعتقد أنه ليس هناك ما نستطيع أن نفعله والتصرف على هذا الأساس- أو بالأحرى عدم التصرف- حتى نكون قد تخاذلنا واستسلمنا”.

*****

إن هذا الذي يراهن عليه الجميع؛ الخصم والصديق في وقت واحد، إنما هو “أنت” والطريق أمامك طويل، ولكنًّه في الوقت نفسه ممتع ومليء بأريج السكينة والاطمئنان.

ومن المهم القول هنا إن خبرةً ما من أفواه الراكضين من قبلنا، قد علمتنا أن هذا “الإنسان” المُرَاهن عليه ليس كتلة أو لونا واحدا من حيث شدة أو ضعف فعالية علاقته بالميدان، بل هو درب متصل ممتد بين خبرات إنسانية ثلاثية الأبعاد..أولها: إنسان “الأمة”..وهو هذا النمط الفريد الذي لا تراه يحيا سوى من أجل تلك الأمة وإعادة بنائها، يتمثل مشكلاتها ويدرك أبعادها عن علم ودراسة ووعي، وهو بعد هذا إنسان فاعل مغوار لا يكتفي بأن يحيط بثغر أو بضعة ثغور وإنما هو مُنشئ الالتفات بالأساس إلى تلك الثغور، يزيد على ذلك بأن يكون ملهما لغيره، يشحذ الههم، ويوقظ العزم، ويكشف الطريق أمام السائرين من حوله، فهو يعيش دائما بمشاعر “المسئول”، تتحدد خططه وطموحه وأحلامه مع تلك الأمة ومستقبلها بل وكذلك أدوارها وواجباتها تجاه باقي الأمم.

أما الخبرة الثانية فهي إنسان “الرشد”؛ وهو هذا الذي بلغ غاية الأمر في المهمة والثُّلمة التي هو عليها، يتقنها ويبدع فيها، ولا يهدأ باله حتى يكون هو العلامة والقبلة لهذا التخصص الملقى على عاتقه، يسد على الخصم كل باب للوثوب من تلك الفجوة، يعرف فقه الأمانة ويؤديها بنشاط، لا يكل ولا يمل في تأدية واجبه ودوره.

وأخيرا نجد إنسان “الصبر” وهو هنا إما شخص مرابط يُحسن أداء مطلوبا تفصيليا ذي أبعاد محددة الملامح؛ فهو يتقبل العمل في همة، ويسلمه على الوجه اللائق، وإما شخص تبقى علاقته مع ميدان الحركة علاقة المطمئن غير الجزع، الواثق في الطريق، والمستشبر بما هو أفضل دومًا وأبدا.

والحقيقة أن هذه المعاني الثلاثة للإنسان المراهن عليه هي جميعها طرق ومداخل لتربية الإنسان الحركي المجاهد، وليست نقاطا يمكننا أن نجزم بها لأحد؛ خاصة أنها صفات قرآنية جاءت كنعت إلهي لأنبياء كرام، ولذا فهي دروب لسير التابعين لهم والمؤمنين بهم، وعلى التخوم بين تلك المحطات الكثير والكثير من الصفات الأخرى التي تكون كالزاد على الطريق والمؤهلة للاقتراب من محطة أعلى ثم الذي يليها وهكذا.

ويمكن النظر كذلك لتلك الخبرات الإنسانية على أنها دوائر متقاطعة لما بينها من تداخل كثيف، ولما تتسع له المساحات البينية بينهم لجمع أكثر من خبرة إنسانية أخرى. والمهم في الأمر أن عين هذا الإنسان المراهن عليه تكون يقظة مترقبة واعية بأية نقطة يقف، وما هي الخطوة التالية التي يريد أن يخطوها؛ لأن القعود عن الارتقاء نكوص، كذلك الوعي بأنه لا محطة معتبرة تنحدر بعد عدم الجزع، بل هو الخطر بعينه ومنه يبدأ الخذلان ويبدأ الخصم في عد نجاحاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …