‫الرئيسية‬ مقالات حراك الشعوب وحكومات الكفاءات
مقالات - ديسمبر 5, 2019

حراك الشعوب وحكومات الكفاءات

يبدو أن الشعوب العربية بدأت تدرك بفطرتها، وعبر تجارب الربيع العربي، قرابة التسع سنوات منذ يناير/ كانون الثاني 2011، أن طبيعة النظم السياسية القائمة في بلدانها، مع تباينها، لا يمكن إسقاطها بطريقة الضربات القاضية، عبر ثورات شعبية عارمة، وذلك بسبب التعقيدات المجتمعية، وتركيبة مؤسسات الدولة العميقة التي تراكمت، عبر عقود من الحكم الإستبدادي والشمولي الذي تسلط على الشعوب العربية، عقب انحسار حقبة الاستعمار الأجنبي الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أعقبتها موجة الانقلابات العسكرية الثورية التي رفعت شعارات التحرّر الوطني، والتي كان أبرزها حركة الضباط الأحرار في مصر، والتي أصبحت الحركة المباركة، ثم ثورة 23 يوليو 1952، بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، ثم انقلاب الجنرال عبد الكريم قاسم في العراق في العام 1958، وتلاه انقلاب اليمن، بقيادة العقيد عبدالله السلال في 1962، وانقلاب صغار الضباط بقيادة الملازم أول معمر القذافي في ليبيا، في سبتمبر/ أيلول 1969، وبالطبع سلسلة الانقلابات العسكرية في سورية، والتي انتهت باستيلاء الجنرال حافظ الأسد على السلطة في 1970، بعد مشاركته في الانقلاب الذي قاده صلاح جديد في عام 1966، وانقلاب تونس الذي قاده الجنرال زين العابدين بن علي، في أواخر حكم الحبيب بورقيبة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987. وقد رفعت كل تلك الانقلابات العسكرية الثورية شعارات الاستقلال والتحرّر الوطني. وفي ظل تلك الشعارات، أسست لنُظم الحكم الشمولية والسلطوية والاستبدادية. وتحتها مارست كل صنوف القهر والقمع. واستمرت تلك النظم قائمةً على مدى عقود، تقدّم نفسها نُظما تقدّمية، قومية، في مقابل النظم الملكية (الرجعية) في معظم بلدان العالم العربي المجاورة. ولم تنتبه تلك النظم إلى ثورة الاتصالات، والمعلومات الهائلة، التي تجتاح العالم، وتأثير تلك الثورة على وعي الشعوب وإدراكها، وهي الشعوب التي فاض بها الكيل، بعد طول عناء.

في تلك الظروف، جاءت مفاجأة الربيع العربي، عندما انطلقت الشرارة من تونس في ديسمبر/ كانون الأول 2010، وأدّت إلى فرار بن علي من تونس في 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وسرعان ما امتدت الشرارة إلى مصر وليبيا واليمن وسورية، وسقط حسني مبارك في مصر، وقتل القذافي في ليبيا، وسقط علي عبد الله صالح في اليمن، ثم اغتاله حلفاؤه الحوثيون، وبقي بشار الأسد في دمشق، مستنداً إلى الحماية الروسية والإيرانية، بعد أن سقط ملايين الشهداء والمصابين، وملايين اللاجئين والنازحين.

توقفت ثورات الربيع العربي في كل دولة عند حد رحيل رأس النظام، وتصوّرت الجماهير الثائرة أنها حققت إنجازاً هائلاً، وأن ثوراتها انتصرت. وبينما انشغلت الجماهير بالاحتفال بذلك النصر، كانت قوى الثورات المضادة، مستندة إلى الدولة العميقة ومؤسساتها، تستعيد سيطرتها على مقدرات الدول، وتحكم قبضتها على مجريات الأمور.

في البداية، عمت حالة من الشعور بالإحباط بين الجماهير العربية، ودبّت الانقسامات بين القوى والتيارات الثورية، ذات التوجهات السياسية والأيديولوجية المختلفة، وكل منها تلقي تبعة إخفاق الثورات وفشلها على الأخرى. ولكن ما لبث أن انقشع الغبار، واتضح أن ثورات الربيع العربي كشفت أمورا غايةٍ في الأهمية: أولها أن رأس النظام لا يمثل سوى رمز للنظام، وأنه عند الضرورة يمكن التخلي عنه، حفاظاً على النظام نفسه، والذي يتكون من شبكةٍ معقدة، من مؤسسات وجماعات مصالح متشابكة، وجذورها ضاربة في المجتمع وترتبط أيضاً بمصالح وقوى خارجية، إقليمية ودولية. وثانيها أن إسقاط تلك النظم يتطلب ضرب تلك الشبكات وتفكيكها، وهو أمر لا يمكن أن يتم بضربة قاضية، من هبّة شعبية وقتية، مهما كانت قوتها. الأمر الثالث، وهو الأكثر أهمية، تلك الطاقة الهائلة من الغضب المكبوت نتيجة للشعور بالقهر والمهانة، والكامنة في وجدان الشعوب العربية، وهو ما أدى إلى ما يمكن أن تسميتها “الحالة الثورية” التي عمّت بلدانا عربية كثيرة، خصوصا التي لم تلتحق بثورات الربيع العربي في العام 2011، السودان والجزائر والعراق ولبنان، حتى الآن، الحالة التي عبر عنها الحراك الشعبي في تلك البلدان.

هل حراك الشعوب في 2019 امتداد، أو موجة ثانية، لثورات الربيع العربي في العام 2011؟ للإجابة، علينا أن نفرّق ما بين الأهداف والوسائل والأساليب والمناهج. من حيث الأهداف، لحراك الشعوب الحالي أهداف التغيير الثورى السلمي نفسها التي خرجت من أجلها جماهير الربيع العربي. ومن حيث الوسائل هي نفسها، التظاهرات الجماهيرية السلمية، والاعتصامات، والدعوات إلى الإضراب، والعصيان المدني. وفي هذا الإطار، يمكن أن يكون حراك الشعوب عام 2019 موجة ثانية، أو امتدادا للربيع العربي. ولكن، بتأمل الأساليب والمناهج التي تبنتها جماهير الحراك، بعمق، نجد اختلافا جوهريا ما بين الحالتين، وإن تشابهتا شكلاً. خرجت جماهير 2019، وهي تقدّم ما يمكن تسميتها “خريطة طريق” للتغيير عبر مراحل متدرجّة، ومحسوبة، ومن دون صدام حاد مع قوى الدولة ومؤسساتها. ولعل أفضل مثال على ذلك ما جرى في السودان، رحيل رأس النظام وحكومته، وحزبه، ثم توافق ما بين قوى الثورة وقوى سلطة الأمر الواقع، المتمثلة في المجلس العسكري الذي أُمسك بزمام السلطة، بالاتفاق على مرحلة انتقالية تتجاوز الثلاث سنوات، تتوزّع السلطات خلالها ما بين مجلس سيادة عسكري/ مدني، وحكومة مدنية، لا تمثل أي تيار سياسي، أو أيديولوجي، أي حكومة تكنوقراط، وتم الاصطلاح على تسميتها “حكومة كفاءات”، ومجلس تشريعي يتم اختياره بتمثيل مناطقي، وبمعايير اختيار مجلس الوزراء نفسها، ويجري، خلال الفترة الانتقالية الطويلة نسبيا، تفكيك شبكات الدولة العميقة، وإعداد دستور جديد للبلاد، ومن ثم إجراء الانتخابات العامة.

المهم في ذلك كله ثلاثة إجراءات محدّدة: تشكيل حكومة الكفاءات، تحديد فترة انتقالية، إجراء التغييرات، أو التعديلات، الدستورية أو القانونية، والتي على أساسها تجري انتخابات عامة. تلك هي مطالب حراك الشعوب مع اختلاف الظروف، وطبيعة القوى المجتمعية، والعوامل المحلية، والإقليمية، والدولية، المؤثرة على كل حالة.
إذا كانت شرارة الثورات الشعبية العربية قد انطلقت في العام 2011، ولم تحقق أهدافها بالضربة القاضية في ذلك الوقت، فإن حراك الشعوب في العام 2019 تميز بوضوح الرؤية، والمطالب الموضوعية، والملموسة، والمحدّدة، والأهم الإصرار والاستمرارية. وحتما سيحقق أهدافه، وإن كان ذلك سيتم عبر جولات متتالية، وإرادة الشعوب ستنتصر في النهاية.


نقلا عن “العربي الجديد”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الإرادة الشعبية وتحدّيات المستقبل

شهد العام 2019 حراكاً شعبياً واسع النطاق في السودان والجزائر والعراق ولبنان. اتسم ذلك الحر…