الطغاة لا يرحلون طواعية
لم يسجل التاريخ حالة واحدة لطاغية زهد فى منصبه أو غادره طواعية، ولو ادَّعى أحدهم استعداده لترك كرسيِّه لآخر يخلفه فهو يكذب ويستخف بمن يوجه إليهم هذا الكلام؛ إذ المستبد أسير السلطة، مريض بتضخم الذات وانتفاخ الأنا، وخروجه من دائرة الحكم ولو للحظة يقتله ألف مرة؛ فيظل ما بقى حيًّا مجنونًا بعظمته، مفتونًا بـ “عبقريته!” لا يرى فى المرآة إلا نفسه.
مات عبد الناصر وهو ابن اثنتين وخمسين سنة، قتله السكر البرونزى، حكم شعبنا بالحديد والنار لنحو خمسة عشر عامًا، وكانت هزيمة التاريخية عام (1967) كفيلة بإخراجه من الحياة ولا نقول من السلطة فقط، إلا أن مرضه بشهوة الحكم جعله صامدًا، وكما يستخف الطغاة بشعوبهم فقد ادعى التنحى، والحقيقة أنها كانت خطة للبقاء، ففى غضون أيام سيَّر المظاهرات الحاشدة، وكان أستاذًا فى التدليس، التى تطالب ببقائه، خرج الآلاف من زبانيته يومى 9، 10 يونيو يعلنون تمسكهم بـ”البطل المهزوم”، ويوم عودته ازداد استبدادًا وطغيانًا عن ذى قبل؛ إذ عين نفسه رئيسًا للوزراء فضلًا عن رئاسة الجمهورية، وانطلق من جديد ينفث سمومه وغله فى مواطنيه، غير أن الله لم يمهله. وكذلك السادات لم يخرجه من السلطة إلا رصاصات من ضباط جيشه مزقت صدره، وكذلك مبارك الذى خُلع ولم يزهد من حكم استمر لثلاثين سنة.
كم مرة سمعنا جملة “لو عايزينِّى أمشى هامشى”؟ وأخيرًا “لو مش عايزينِّى.. نعمل استفتاء ويجى غيرى يخربها”.. فهل اتخذ إجراء واحدًا يؤكد صدق ما يقول؟ إذًا هو الاستخفاف بعقول السامعين، وإلقاء معلومات مغلوطة على من يفترض فيهم الغباء والحمق؛ لخلق حالة من تصديره من جديد إلى الواجهة بعد تتابع الفشل والتردى، وهو يعلم أن قطاعًا من المغفلين أو من الذباب الإلكترونى سوف يهبّون مدافعين عن حتمية وجود “البطل” وعدم مغادرته.
فى النهاية هو يعمل لذاته التى لا يرى غيرها؛ ولو كان صادقًا فيما يقول ما هدد من قبل من يقترب من “الكرسى” بقوله “اللى هيقرب منه هشيله من على وش الأرض”، وما وجَّه مقدرات البلد جميعها لحماية هذا الكرسى ومنها أركان الأمن القومى وما جرى من بيع جزر وغاز ونيل والبقية تأتى؛ ولأن الدماء التى أسالها والأعراض التى انتهكها والأموال التى صادرها وعشرات الآلاف الذين اعتقلهم –ولا يزالون- دون ذنب أو جريرة كانت للحفاظ عليه ومنع “أهل الشر” من الوصول إليه. ألم يقل “اللى حصل فى يناير مش هيتكرر مرة تانية خالص”، إن هذا معناه سد جميع السبل أمام أى تغيير، لماذا؟ لأن ما يعيشه الآن كان حلم حياته، ذلك الحلم الكبير الذى رأى فيه السيف الأخضر والساعة “الأوميجا” ورأى من يبشره –كما يوسف- بحكم مصر!
أما القاسم المشترك بين الفرعون الأكبر والفراعنة الصغار فهو الاستخفاف، بما يحمل من كذب وافتراء وتهويل، باستخدام العوام المسخ؛ إذ هم ذخيرة كل مستبد، فلا غرو أن يأتى بالأكذوبة إثر الأخرى وهو مطمئن البال ثابت الجنان لأنه يعلم أن سامعيه لا يعقبون؛ لما يرون فيه من كرامة ومعجزة الأنبياء. يقول “الكواكبى” فى ذلك: (لا يخفى على المستبد، مهما كان غبيًّا أن لا استعباد ولا اعتساف ما دامت الرعية حمقاء تخبط فى ظلامة جهل وتيه عماء)، غير أن إشكالية مستبدى اليوم أنهم لا يقدرون أن العالم قد تغير وأن طائفة الحمقى باتت فى طور الانقراض، وأن جيلًا أو جيلين ربما كانا كافيين لإيداعها متحف التاريخ.
وهناك قاسم مشترك آخر يدلل على أن “الفرعنة” مرض عقلى وذهان معقد، من أعراضه شذوذ الفكر والسلوك واضطراب العاطفة والشعور؛ فيدَّعون انفرادهم بالحقيقة دون سائر الخلق، وهو لذلك يصدر الأوامر إلى الرعية باختزال الآراء فى رأيه، والشرع فى قوله، قال فرعون الأمة (مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُم إلَّا سَبِيلَ الْرَّشَادِ) [غافر: 29]، وقال فرعون اليوم (متسمعوش كلام حد غيرى أنا.. أنا بس)، تخيل! الأمة بعلمائها وقادتها وعباقرتها ينتظرون الأخذ منه على ما يعانيه من اضطراب وتشويش؟!
إن “الرائد لا يكذب أهله” ولا يغشهم، ولا يستخف بهم؛ فإن فعل فهو ليس فى مأمن، كما يظن، ولو أحيطت به الأسلحة والحاميات من كل جهة، فإن هناك ساعة فى وقت الشعوب تغير ما فُرض عليها لعقود فى لحظة، وساعتها لن تغنى عن المستبدين حصونهم ولا جدرانهم. لما حان أجل “تشاوشيسكو” وعصابته، والذى يُضرب به المثل فى القمع والقسوة على مدى ثمانية عشر عامًا حكم فيها “رومانيا”، حًكم عليه بالإعدام ونُفِّذ الحكم فى غضون ساعة واحدة (60 دقيقة)، كان قبل هذه الساعة منتفخًا كالطاووس لا يرى فى الوجود أحدًا أقوى منه. سبحانك ربى.
ما أثبته اللهُ لا يمحوه حكامُ العرب
لست قلقًا من خطوة التطبيع التى قام بها حكام الدولة القزمة، أو “الوظيفية” كما س…