‫الرئيسية‬ ترجمات ودراسات هل الإمبراطورية أفضل للشرق الأوسط؟
ترجمات ودراسات - يونيو 12, 2015

هل الإمبراطورية أفضل للشرق الأوسط؟

في الآونة الأخيرة، أثار الصحافي روبرت كابلان ضجة كبيرة من خلال مقالة له في صحيفة “فورين بوليسي”، والتي بدت كدعوة للعودة إلى الحكم الإمبراطوري كبديل عن “الفوضى” في العالم العربي اليوم. هذه ليست أول محاولة لكابلان في إثارة مثل هذه الحالة، دائمًا ما تثير كتاباته ردود مهمة وصاخبة.

ومع ذلك، لا تزال حجج كابلان تجد قرّاءً متعطشين لها. لقد أثار هو ومنتقدوه حججًا إشكالية عميقة، ليس فقط حول طبيعة الإمبراطورية، ولكن أيضًا حول القومية والحدود ومسار التاريخ ومشاكل السياسة وتكوين الدولة في الشرق الأوسط الحديث. ولا تصمد تلك الحجج أمام الحقائق كما تكشف الكثير من البحوث في العلوم السياسية بقدر كبير من التفصيل.
الحقائق مهمة لأنّ هذه الحجج عن التاريخ الإمبراطوري للشرق الأوسط لا توجد من فراغ. لقد اُختيرت هذه الحجج لدعم مواقف سياسية مختلفة تجاه المنطقة. وسوف نشرح أدناه كيف أن هذه الحجة خاطئة، وكيف تؤدي هذه الأكاذيب إلى المواقف السياسية المؤسفة.

أوهام الإمبريالية

يزعم كابلان أنّ الحالة الراهنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتجت عن انهيار ثلاثة أنظمة إمبراطورية: الإمبراطورية العثمانية، وتحديد العالم بـ “الحدود التي أقامتها الإمبريالية الأوروبية في بلاد الشام”، كما أوضح كابلان، والدور الأمريكي السابق في “تنظيم وتحقيق الاستقرار في المنطقة” ظاهريًا.

كما يفرق كابلان بين الدول التي من المفترض أن يمتد تاريخها إلى العصور القديمة (المغرب وتونس ومصر)، والدول المصطنعة التي يفترض أنها بدون سوابق تاريخية قديمة (الجزائر وليبيا والعراق وسوريا). وفي ظل انهيار هذه الدول، كما ذكر، ظهرت “القوى الإقليمية الأصلية” مثل إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، لتشكل “العقد” حول الفروق الدينية والأيديولوجية التي يمكن وينبغي أن تكون بمثابة أقطاب للتحالفات الإقليمية الجديدة اللازمة لاستعادة النظام في الشرق الأوسط.

حجج كابلان هي ذكريات غامضة وغير دقيقة عن ماضي بديلة لأفكار عفا عليها الزمن حول الحتمية الجغرافية والصراع بين المسلمين. فهو يفترض، على سبيل المثال، أنّ تاريخ الحضارة القديمة أعطت دولًا مثل المغرب “الأشكال القوية من الهوية العلمانية”، وهو ادّعاءٌ يتناقض إلى حد ما مع لقب الملك المغربي كأمير للمؤمنين. كما يحاجج أيضًا بأنّ عدم وجود مستوطنات رومانية كبرى في ليبيا والجزائر (وهو مجرد زعم كاذب: فقد كان هناك مستوطنات كبيرة في ما يعرف اليوم بقسنطينة، وتيبازة وغيرها، والمناطق الرومانية في طرابلس وبرقة) يشكّك بطريقة أو بأخرى في مسألة ما إذا كانت هناك “دولة أو حكومة مركزية ممكنة” في هذه الأماكن. لكنّ الحدود الشمالية للجزائر تم تحديدها منذ مئات السنين، في حين أن الخلل الذي تعاني منه ليبيا الآن ينبع بالأساس من عقود من الحُكم القبلي والعائلي لمعمر القذافي، الذي أضعف ودمّر مؤسسات الدولة.

حجج مصطنعة حول حدود مصطنعة

ومع ذلك، فإنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو مزاعم كابلان حول الحدود المصطنعة المفترضة و”النظام” الذي جلبه الحُكم الاستعماري. حجة الحدود المصطنعة هي أسطورة شائعة لا تزال، للأسف، تسيطر على مناقشات سياسة الشرق الأوسط. ببساطة، يزعم كابلان أنّ اتفاقية سايكس بيكو صيغت بشكل تعسفي، ولم تتوافق مع الحقائق الطائفية أو الوطنية على أرض الواقع، مما يعني أن الحدود “المصطنعة” التي رسمها الاتفاق ساهمت في الفتنة الطائفية التي نراها اليوم.

تعني الشكاوى حول الدول المصطنعة أنّ الحدود لا يمكن أن تكون طبيعية. وعلى الرغم من أنّ النخب القومية قد ترغب في تصوير الحدود وكأنها أمر طبيعي لجماعاتهم المقربة، في جميع أنحاء العالم، إلّا أنّ الدول نشأت من خلال العمليات الاجتماعية التي تنطوي على الصراع والتفاوض لإنشاء الحدود التي نراها اليوم. هذا صحيح سواء توسعت تلك الحدود، أو تقلصت، أو تم وضعها من قِبل غرباء أو محليين، ولكن في جميع الحالات يتم البناء اجتماعيًا وليس اصطناعيًا أكثر من أي حدود أخرى. القول بأنّ بعض الانقسامات الإمبراطورية (مثل الحدود العثمانية) باعتبارها “طبيعية” في حين وصف الكثير من الحدود الاستعمارية الأخيرة باعتبارها “مصطنعة”، هو أمر يريك إلى مدى يتم رسم الحدود من خلال العمليات الاجتماعية والسياسة والعنف.

وبالإضافة إلى ذلك، انهارت كيانات متجاوزة للأوطان، مثل الجمهورية العربية المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والاتحاد المالي في غرب أفريقيا، في ظل القيود السياسية المحلية والوطنية. وهذا يشير، عكس مزاعم كابلان، إلى أنّ الفروق الوطنية مهمة، حتى عندما رسمت القوى الاستعمارية حدود ما أصبح بعد ذلك دول ما بعد الاستعمار. كما أوضح مارك لينش وآخرون الطرق التي لا تبرز من خلالها الهوية الوطنية في الشرق الأوسط حتى الآن. في الواقع، يمكن أن تُظهر دول كابلان “المصطنعة” درجة عالية من التماسك والشعور القومي، حتى في مواجهة الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي المستمر.

وعلى الرغم من أنّ اتفاقية سايكس بيكو هي مثال بسيط للتحديد الأوروبي التعسفي للحدود، لكنّ الحدود الاستعمارية ليست دائمًا “مصطنعة” تمامًا. تلاحظ كميل ليفبفر في كتابها الأخير ومقالاتها العلمية والعامة أنّ عددًا من الحدود الأفريقية —مثل في النيجر— انبثقت عن الحقائق السياسية والعسكرية والاجتماعية القائمة التي انخرطت فيها أكثر من مجرد كتابات الأوروبيين التي تتبع خطوط مستقيمة على الخرائط. وبالطبع، غذّت جرائم الاستعمار والاستعمار الجديد والفظائع المشاكل المعاصرة، وكذلك فعلت أيضًا الحقائق السياسية المحلية. إنّ إرجاع عنف ما بعد الاستعمار والفوضى إلى عوامل خارجية بحتة –سواء كانت تلك الحدود استعمارية أو إصلاحات اقتصادية ليبرالية جديدة– يتجاهل وجود الناس الفعليين والصراع على السُلطة على أرض الواقع.

هل الإمبراطورية أفضل حقًا؟ اسأل المُستعمَرين

جوهر حجة كابلان للإمبريالية الجديدة هو أنّ السيطرة الإمبريالية على الشرق الأوسط عزّزت قيام المزيد من الأنظمة الاجتماعية وحدت من الصراعات. وتفتقد وجهة النظر الوردية تلك عن الإمبريالية لأشكال المقاومة المختلفة للحُكم الأجنبي والعنف الهائل للغزو الاستعماري.

هذا الأمر أكثر وضوحًا في المناطق التي واجهت أشكال أشد من الاستعمار الاستيطاني، مثل جنوب أفريقيا وكينيا والجزائر. في هذه البلدان واجهت الحكومات الاستعمارية البريطانية والفرنسية على حد سواء انتفاضات متكررة، الأمر الذي جعلها تلجأ بانتظام للقمع الوحشي وللنظم القانونية المروعة مثل السُخرة في شمال وغرب أفريقيا، وهي القوانين التي أجبرت الشعوب المستعمَرة لتوفير اليد العاملة للحكومة الاستعمارية ومنحت المسؤولين الاستعماريين سُلطات هائلة لتجريم العديد من جوانب الحياة اليومية. وجميعها كان موجودًا على الأقل في جزء منه لتنظيم العمل وبذل المزيد من السيطرة على الشعوب المستعمرة.

حتى في الأماكن التي كان الاستعمار الأوروبي أقل حضورًا فيها، ثار الناس بعنف ضد الحُكم الاستعماري، كما هو الحال عندما ثار الشمال المغربي ضد القوات الإسبانية والفرنسية في فترة العشرينيات. كما ثار المستعمًرون ضد المستعمِرين غير الأوروبيين. واجه الحكّام العثمانيين العديد من الثورات، مثل الانتفاضة الصربية الأولى في عام 1804 والثورة الألبانية 1844. غالبًا ما ينطوي “النظام” الإمبريالي على سفك الدماء والقمع بصورة مستمرة، وهو شيء تعلمته الولايات المتحدة بعد “تحرير” العراق.

عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن “الإمبراطورية”؟

أي شخص يحاول تبرير سياسة المدى القصير في الشرق الأوسط من خلال الإشارة إلى النظام السياسي الذي استمر لعدة قرون سيكون قادرًا على العثور على بعض السرديات التاريخية لدعم حجته. لكن الإمبراطوريات تختلف، وقد اختلفت بشكل كبير خلال أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة. حتى داخل الإمبراطورية الواحدة، يختلف الواقع السياسي بشكل لا يصدق مع مرور الوقت.

قال المحلل السياسي بول ماكدونالد إنّ الشبكات الموجودة مسبقًا من الجهات الفاعلة المحلية هي المفتاح لشرح الهيمنة الإمبريالية الناجحة، في حين يوضح أستاذ علم الاجتماع السياسي مايكل هيشتر أنّ المقاومة لحُكم الإمبراطورية يختلف باختلاف بنية الإمبراطورية.

كما يوضح أدريا لورنس كيف كانت الدول القومية التي ظهرت من الحكم الاستعماري واحدة من عدة نتائج محتملة في المغرب والجزائر، بينما يلاحظ فريدريك كوبر كيف اقترح الساسة الأفارقة مجموعة كبيرة من الترتيبات السياسية والأنظمة في وقت متأخر من الاستعمار الفرنسي لغرب أفريقيا التي كانت مختلفة عن الدول القومية اليوم.

ويوضح كل هذا البحث كيف أنّ الإمبراطوريات يمكن أن تختلف كثيرًا عن بعضها البعض، سواء في نوع النظام التي تقدمه، أو ردود الفعل والمقاومة التي تلهمها في المستعمرات.

“الإمبراطورية” ليست شيئًا ثابتًا؛ إنها فكرة، يقوم بها الناس، بطرق مختلفة. وليس من الضروري أن يؤدي حكم الإمبراطورية إلى الاستقرار. لقد كافح الإيطاليون لتوطيد حُكمهم على إثيوبيا، وواجه العثمانيون مقاومة في البلقان، وتعثر البريطانيون بصورة خطيرة في محاولة حُكم العراق بعد الحرب العالمية الأولى.

يدعو كابلان وآخرون إلى الإمبراطورية الخفيفة، دون الاعتراف بأن الإمبراطوريات ليست دائمًا مشرقة ومستقرة وناجحة. يحتاج صنّاع السياسات والعلماء لتجارب تاريخية دقيقة للحكم ال’مبراطوري، ويحتاجون للبقاء متيقظين للطرق التي تؤثر بها السياسة المحلية والقوى السياسية الخارجية والتدخل العسكري على البلدان بطرق لا تعد ولا تحصى ومعقدة بشكل لا نهائي.

…………………………

المصدر: صحيفة التقرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إعلان وفاة.. هل أتم الصهاينة سيطرتهم على الجامعة العربية؟

ربما يعلم العدو الصهيوني أن كلمة واحدة تخرج من على منبر جموعي واحد، تفعل ما لا تفعله مئات …